المسيح والعنف

mjoa Thursday September 25, 2008 477

موقف العنف ومصادره:
العنف، مهما تعددت أشكاله، إن كان فردياً أو جماعياً، ان كانت غايته إلحاق ضرر مادي أو معنوي بالآخر، ان كان مبادرة أو جواباً على عنف سابق، يفترض غالبا موقفاً روحياً واحداً، الا وهو اعتبار الآخر حاجزًا لا بد من إزالته أو تذليله. العنيف إذاً ينظر غالباً إلى الآخر كشيء ينبغي تحطيمه، وليس كشخص يحترم.

.

 ومصادر هذا الموقف متنوعة: منها حب السيطرة الذي لا يقبل بمعارضة أيا كانت ولا يقيم وزناً لرأي الآخر أو وجوده، ومنها البغض والكراهية وحب الإنتقام والتشفي، ومنها الخوف من الآخرين الذي يدفع إلى الإعتداء عليهم تلافياً لإحتمال اعتداء من قبلهم حسب المثل الشعبي السائر “أتغداه قبل أن يتعشاني” وتظهر هذه العلاقة بين الخوف والعنف عند الحيوانات أنفسها كما يتضح مثلاً من ملاحظات المحللة النفسية ماريز شوازي Maryse Choisy حول تصرفات الأسود (أنظر كتابها: المسيحي أمام التحليل النفسي- صفحة 90-100)، ومنها أن يحاول فرد أو جماعة التخلص من شعور بالذنب ينتابه، بإلقاء عبء هذا الذنب على فرد أو جماعة تعتبر عند ذاك “كيش المحرقة “فتنصب عليها الأحقاد….
 

 

تعليم المسيح عن العنف:
من البديهي والحالة هذه أن يرفض يسوع العنف، كما يبدو من مقاطع عديدة من الإنجيل. فاننا نسمعه يقول في الموعظة على الجبل: “طوبى للودعاء فانهم يرثون الأرض” (متى 5: 4) وأيضاً: “طوبى لفاعلي السلام فانهم أبناء لله يدعون” (متى 5: 9) وأيضاً: “سمعتم أنه قيل للأقدمين: لا تقتل، فان من قتل يستوجب المحاكمة، أما أنا فأقول لكم: ان كل من غضب على أخيه يستوجب المحاكمة….” (متى 5: 21 و22) وايضاً :”وسمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير. بل من لطمك على خدك الأيمن، فقدم له الآخر أيضاً…” (متى 5: 38) وأيضاً: “سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك. أما أنا فاقول لكم: أحبوا أعداءكم وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم…” (متى 5: 43). وقد أوصى تلاميذه قائلاً:”ها أنا أرسلكم كغنم بين ذئاب، فكونوا إذا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام” (متى 10: 16).

وقد علّم الرسل التعليم نفسه، فكتب الرسول بولس: “لا تكافئوا أحدا على شر بشر” (رومية12: 17) وأيضاً: “باركوا الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا” (رومية 12: 14) وأيضًا: “سالموا جميع الناس إن أمكن أو ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً” (رومية12: 18) وأيضًا “أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والأمانة والوداعة والعفاف” (غلاطية 5: 22 و23).

 

 
هذا التعليم عن العنف مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتعليم عن المحبة. فالعنف مرفوض لأنه يعكس موقفاً منافياً للمحبة. من اعتبر الآخر “شيئاً” للتحطيم، يحتقر صورة الله فيه. من رغب في ازالة الآخر من وجوده يشبه القاتل ولو لم يقتل بالفعل: “كل من يبغض أخاه فهو قاتل” (1 يوحنا 3: 15) من لا يعتبر أن للآخر وجودًا مستقلاً بل يشاء أن يسخره عنوة لسيطرته بعيد عن المحبة التي تقبل بالآخر كآخر، ولو لم يشاركنا في الجنس واللون والرأي والمعتقد، ولا تعتبره مجرد امتداد للأنا المنتفخ، سواء أكان هذا الأنا فردياً أو جماعياً.
 
رفض يسوع للعنف في حياته:
        وقد تجلى رفض يسوع للعنف ليس في تعاليمه فحسب، بل في شخصه وحياته أيضاً. فبالفعل تمت فيه نبوة أشعياء التي قرأها في المجمع شارحاً لليهود أنها تشير اليه: “هوذا فتاى الذي اخترته، حبيبي الذي سرت به نفسي…. لا يخاصم ولا يصيح، ولا أحد يسمع صوته في الساحات العامة. لا يكسر القصبة المرضوضة ولا يطفئ السراج المدخّن” (متى 12: 18-20).

وقد روى لنا الإنجيلي لوقا أن احدى قرى السامريين لم ترد أن تقبله فيما كان متجهاً إلى أورشليم، “فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا له يا رب أتريد أن نطلب أن تنزل نار من السماء وتأكلهم. فالتفت وزجرهما قائلاً لستما تعلمان من أي روح أنتما. فان ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس بل ليخلصها. ومضوا إلى قرية أخرى” (لوقا 9: 54-56).

ولما دخل إلى أورشليم دخوله الإحتفالي الذي سبق آلامه، لم يشأ أن يركب حصاناً، وقد كان الحصان عند اليهود رمزاً للحرب، وعوضاً أن يظهر بمظهر الفاتح العنيف اخذ مظهر الودعاء: “وكان هذا ليتم ما قيل بالنبي القائل: “قولوا لإبنة صهيون: هوذا ملكك يأتيك وديعاً، راكباً على جحش ابن أتان” (متى 21: 4).

وحين القاء القبض عليه، أعطى تلاميذه تجاه اعتداء الظالمين، درساً بليغاً في اللاعنف: “وان واحداً ممن كانوا مع يسوع، مد يده، واستل سيفه، وضرب غلام رئيس الكهنة، فقطع اذنه. حينئذ قال له يسوع: “رد سيفك إلى موضعه، لأن جميع الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون. “(متى 26: 51-53).

وفي أثناء استجوابه امام رئيس الكهنة، إذ سأله هذا الأخير عن تلاميذه وتعاليمه، أجابه يسوع بجرأة أن تعليمه كان علنياً، فعندئذ، حسبما يروي لنا الإنجيلي يوحنا، “لطمه واحد من الشرط، كان قائماً هناك، وقال: “أهكذا تجيب رئيس الكهنة!” أجابه يسوع: “ان كنت تكلمت بشر، فبين أين هو الشر، وأن بصواب فلم تضربني؟ “(يوحنا 18: 22). ويجدر بنا أن نتوقف قليلاً عند جواب يسوع هذا. كثيرون من يحتجون على تعليم الرب “من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر أيضاً” إذ يفرغون هذه الألفاظ من معناها الروحي العميق ويتمسكون بحرفيتها، مع أن “الحرف يقتل ولكن الروح يحيي” ، فيرون في ذلك التعليم مدعاة إلى الخنوع والجبن، ويتجاهلون الطاقة الروحية الهائلة التي يفترضها. ولكن تصرف الرب يسوع في هذه المناسبة يلقي ضوءاً على معنى تلك الوصية الأصيل. يسوع لم يحول للشرطي خده الأيسر ولم يبد في تصرفه أي أثر لذل أو خنوع أو تلذذ بالألم والهوان ولكنه أوقف الشرطي عند حده بلهجة تقترن فيها الوداعة بالرجولة والمهابة والجلال.

 

 

ولما بلغ الحقد على يسوع مأربه، وسمر السيد على الصليب، قابل أوج لإجرام هذا بأوج المحبة، وذروة العنف بذروة الوداعة، فهتف وهو على الصليب مصلياً من أجل قاتليه: “يا أبت أغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون” (لوقا 23: 34).

 

وقد سار المسيحيون الأولون على منوال وداعة المعلم حسبما أوصى: “تعلموا مني، فاني وديع ومتواضع القلب” (متى 11: 29). فلم يثوروا ضد مضطهديهم ولكنهم حققوا الثورة الروحية الكبرى بتقديم شهادة الدم دون حقد أو ضغينة. وعندما تنصرت الإمبراطورية المضطهدة، تعرض المسيحيون لتجربة القوة الزمنية وتلوث البعض منهم بروح العالم، فاضطهدوا من لم يشاركهم بالمعتقد، من وثنيين أو هراطقة. ولكن صوت القديسين كان يدوي عالياً شاجباً تلك التصرفات المنافية لروح الإنجيل ومذكراً بأن ديانة المحبة لا يدافع عنها بأسلحة الحقد. ولنسمع على سبيل المثل ما تفوه به الذهبي الفم في احدى عظاته: “ان تحويل عقلية الأخصام أعظم بلا شك من قتلهم. لم يكن الرسل سوى اثني عشر، بينما كان العالم كله مأهولاً بالذئاب. فلنخجل إذا، نحن الذين نتصرف بعكس ذلك، فننقض كالذئاب على أخصامنا. اننا منتصرون طالما نتصرف كالخراف. ولو كنا محاطين بالآف الذئاب، فنحن أقوى منهم جميعاً وسنحرز النصر. ولكن إذا تصرفنا كذئاب، فسوف ننهزم، لأن الراعي سوف يحرمنا عند ذاك من معونته. فانه راعي الخراف وليس براعي الذئاب” (العظة الثالثة والثلاثون على انجيل متى).
 
معنى الوداعة تجاه المعتدي:
هكذا يتضح لنا لماذا يأمر يسوع بالتصرف الوديع حتى مع المعتدي. ذلك لأن الغاية هي خلاص هذا المعتدي. إذا أجبنا على عنفه بالعنف، فكيف يمكننا أن ننقذه من الشر الذي يستعبده؟ انما يكون قد غلبنا حقاً بدفعه إيانا إلى مشاركته في الكراهية والبغضاء. أما إذا قابلنا عنفه بالوداعة، فلربما تركنا للمحبة مجالاً للدخول إلى قلبه، بتقديمنا شهادة حية للمحبة الحقة، المحبة غير المشروطة، التي تشمل كل انسان على علاته، وان كان ظالماً حقوداً، المحبة المنتصرة التي لا تتزعزع امام هجمات العنف. هذه المحبة وحدها، لأنها من الله، قادرة أن تنير قلب الإنسان المكبل بالحقد، وان تحطم أغلاله، وان تنقله من عالم العنف إلى عالم الله الذي “يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين”.

 

أنها وحدها اقوى من الحقد وبها يمكن أن يغلب غلبة جذرية، كاملة. بهذا المعنى كتب الرسول بولس: “لا تنغلب للشر، بل أغلب الشر بالخير”(رومية 12: 21).

 

العنف يولد العنف إلى ما لا نهاية له “لأن جميع الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون” (متى 26: 52). أما مقابلة العنف بالوداعة فلها حظ بأن تحطم هذه الدوامة الجهنمية وبأن توجد الأسس لسلام حقيقي.
 
الوداعة لا تنفي الشدة:
ولكن الوداعة ليست بالميوعة كما تصورها نيتشه. إنها لا تنفي الشدة. فالشدة ضرورية أحياناً لإيقاظ الضمائر المتحجرة. ان محبة الناس تقتضيها أحياناً، فمن يحب أخوته يتوجب عليه أحياناً أن يقلقهم ويزعجهم لخيرهم، وذلك دائماً على حساب راحته الخاصة. ولذلك تصرف يسوع بشدة في عدة ظروف من حياته. لقد كان، إلى جانب وداعته، شديداً عندما يقتضي الظرف الشدة، ولذا فليس هناك إيّ شبه بين يسوع الإنجيل وبين تلك الصورة العاطفية الباهتة التي تخيلها رينان عنه مثلاً (أنظر مقال جاك مترا  Jacques Mettra عن “حياة يسوع” لرينان، في جريدةL’orient  littéraire عدد 156 حزيران 1963). فقد حدث له أن خاطب بلجهة قاسية الشعب اليهودي وخاصة رؤساءه، موبخاً اياهم على كبريائهم وريائهم وسعيهم وراء الخوارق وعدم ايمانهم: “يا نسل الأفاعي، كيف تستطيعون أن تنطقوا بالصالحات وأنتم اشرار؟” (متى 12: 34)، “جيل شرير فاسق” (متى 12: 39) ، “أيها الجيل غير المؤمن، الأعوج” (متى 17: 17)، “ويل لكم أيها الكتبة والفريسييون المراؤون” (متى 23: 13). وقد تجلت هذه الشدة ليس بالكلام فقط بل بالعمل أيضاً، كما يروي لنا الإنجيلي يوحنا: “وكان فصح اليهود قد قرب فصعد يسوع إلى أورشليم فوجد في الهيكل باعة البقر والخراف والحمام والصيارفة على موائدهم. فصنع سوطاً من حبال واخرج جميعهم من الهيكل والخراف والبقر ونثر دراهم الصيارفة وقلب الموائد. وقال لباعة الحمام ارفعوا هذه من ههنا ولا تجعلوا بيت ابي بيت تجارة” (يوحنا 2: 13-16). وقد تعرض رسله أنفسهم لشدته، فقد دعاهم “قليلي الإيمان” (متى 8: 26) ووبخهم على بطء فهمهم للأمور الروحية (متى 15: 16) وزجر بطرس لأنه كان يحاول أن يثنيه عن عزمه بتضحية نفسه، قائلاً له: “اذهب خلفي يا شيطان” (متى 16: 23).

 

 

 

ولكن يسوع استعمل الشدة في تلك الظروف كلها دون أي بغض أو كراهية. ولم يكن لغير المحبة مكان في قلبه. فقد كان يكتنف بحنو لا مثيل له ذلك الشعب غير المؤمن، فيشفي مرضاه ويبشر مساكينه. وكان يدعو تلاميذه البطيئي الفهم، المنهمكين بأمور الدنيا: “يا أولادي الصغار…”، أما الكتبة والفريسيون الذين قتلوه فقد صلى من اجلهم على الصليب، وبكى على أورشليم فيما كان يدعوها “قاتلة الأنبياء” وينذرها بالعقاب. لم يستعمل إذاً يسوع الشدة الا كما يستخدم الجراح المبضع، ليس بغضاً بالمريض بل في خدمته ومن أجل سلامته. يروى أن أناساً حاولوا أن يعترضوا على أسلوب اللاعنف الذي كان يتمشى عليه غاندى باستشهادهم أمامه بحادثة طرد الباعة من الهيكل ، وقد كانوا يعلمون ان الزعيم الهندى كان يتتلمذ ليسوع، فأجابهم غاندي: “لو كان يمكن أن تكون فيكم الوداعة التي كانت في يسوع عندما طرد الباعة بالسوط من الهيكل، لسمحتُ لكم باستخدام السوط”.
 

 

الوداعة لا تعني الخنوع:
وهكذا يتضح ان الوداعة الحقة لا تعني الخنوع أو التخاذل. انما يرافقها تصميم في تتميم الرسالة مهما كانت العقبات ولو قاد ذلك إلى الموت. الوديع لا يبغي اهلاك الآخرين ولكنه لا يتراجع أمام تضحيته بنفسه إذا اقتضى الأمر. ان يسوع الوديع لم يكن متخاذلا بل صلبا في موقفه من عظماء هذا الدهر. هذا ما يتضح مثلاً من تلك الحادثة التي يرويها لوقا الإنجيلي: “وفي تلك الساعة تقدم اليه نفر من الفريسيين وقالوا له: انطلق، اذهب من ههنا ، فان هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: “اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنذا أطرد الشياطين، وأجرى الأشفية اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث ينقضي أجلي ولكن لا بد من أن أواصل السير اليوم وغداً وما بعده” (لوقا 13: 31-33). ذلك الحزم والتصميم عينه، تصميم من قدّم حياته طوعاً في سبيل تتميم رسالة المحبة الملقاة على عاتقه، نجدها في موقف يسوع عند وقوعه في ايدي أعدائه ومحاكمته الظالمة، فاننا نراه يتصرف تجاه أعدائه وقضاته المضطربين الخائفين، وكأنه الحاكم لا المحكوم عليه، بوداعة يرافقها ثبات هادئ قوي.

 

 
الوداعة لا تنفي مكافحة الشر:
الوداعة إذا لا تعني مساومة الشر. ان مصدرها المحبة، والمحبة لا بد لها أن تتجند لمكافحة كل شر، لأن الشر يهدد الآخرين في أجسادهم أو نفوسهم. لا تعني الوداعة إذا ان يقف الإنسان مكتوف الأيدي أمام الشر. أنما تفرض أسلوباً خاصاً في مكافحة الشر. تفرض أن يكافَح الشر دون بغض للشرير وأن يُلجأ إلى الوسائل السلمية ما أمكن ذلك، وان يسعى لإيقاف الشر بالتوجه إلى عقول الناس، مهما سخرت في خدمة الأهواء، وإلى قلوبهم ، مهما انحرفت، وإلى ضمائرهم مهما تحجرت. انها تفترض ثقة بأن صورة الله لا تزال كامنة في صميم الإنسان، وإن تشوّهت. الوداعة إذًا فيها الكثير من التأني (“المحبة تتأنى…” على حد قول الرسول) لأن فيها الكثير من الإحترام للآخر ولو ضلّ السبيل.

 

وقد كتب جيلبر سيسبرون Gilbert Cesbron في روايته الأخيرة “بين كلاب وذئاب”: “ليس عكس العنف السلبية، لكن الصبر”. ولكن صبر الوداعة هذا أقوى سلاح ضد الشرّ. الوداعة تكافح الشر في جذوره لأنها تحاول اسئصال البغضاء من قلب المعتدي وربحه إلى معكسر المحبة، بينما تؤول مكافحة الشر بالكراهية والبغضاء إلى تخليده، ولو تغيرت الأوضاع الخارجية. ولذلك، بما أن للوداعة تلك الفاعلية الفائقة في مكافحة الشر، نرى قوى الشر تتألب عليها بضراوة، فيحدث ما هو مذهل لأول وهلة أي أن الوديع الذي لا يُحقد على أحد ويبشر بأن لا يحقد على أحد، يصبح فريسة الحقد، وما استشهاد غاندي، رسول اللاعنف في أيامنا، سوى مثل بليغ، مؤثر، لذلك.
 
سُبُل اكتساب الوداعة:
ليست الوداعة إذا عاطفة حلوة وحسب، أو موقفاً سهلا مريحاً، انها التزام صلب، شاق، في عالم كثيراً ما تسوده شريعة القوة الغاشمة. وقد كتب سيسيرون في كتابه المذكور اعلاه: “الأمر الأصعب هو أن لا يكون الإنسان عنيفاً، فيما يجابهه العنيفون، “وبعبارة أخرى أن يعكس المثل السائر فيرفض بأن يكون ذئباً مع الذئاب. الوداعة تتطلب نظرة متجددة إلى الإنسان والكون ومقاييس جديدة في تقييم الأمور بحيث تصبح المحبة القيمة المطلقة والأخيرة، لأن “الله محبة. فمن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه “(1 يوحنا 4: 16) و”لأن المحبة من الله فكل من يحب فهو مولود من الله وعارف به ومن لا يحب فانه لا يعرف الله لأن الله محبة” (1يو 4: 7 و8). الوداعة تقتضي مفهوماً جديداً للفاعلية وسعياً لا وراء الفاعلية السطحية، الرخيصة، بل وراء الفاعلية الأصيلة، العميقة.

 

إنها تتطلب تحرراً من “مركزية الأنا” كي يتسنى اعتبار الآخر غاية بحد ذاته وليس مجرد وسيلة وأداة. انها تقتضي في النهاية اهتداء حقيقياً وتجدداً في الأعماق.

 

 
هذا الإهتداء انما هو اهتداء إلى المسيح، لأن “بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك قد بذل نفسه من أجلنا” (1 يوحنا 3: 16). سبل اكتساب الوداعة هي أن تتمثل فينا صورة المسيح الوديع بمطالعتنا الخاشعة للإنجيل، هي أن تحيا فينا محبة المسيح بالصلاة والأسرار وتأمل الكلمة. فإذا رسخت فينا هذه المحبة تحررنا من الكبرياء وحب السيطرة، هذين الدافعين الأساسيين إلى العنف. وإذا كان الخوف من أهم مصادر العنف، فاكتساب الوداعة يقتضي التحرر من نير الخوف، وذلك يتم إذا تيقنا بأننا محبوبون من الله، مشتركون، رغم ضعفنا، بغلبة الرب الناهض من بين الأموات، “ليعتق كل الذين كانوا مدة حياتهم خاضعين للعبودية مخافة من الموت” (عبرانيين 2: 15)، فنمتلئ هكذا ثقة تخولنا أن نحطم عقال انطوائيتنا وأن ننطلق بدورنا دون خوف في مجازفة المحبة.
 
عنف المحبة:
ولكن إن سرنا على درب الوداعة هذا، فما هو نصيب طاقة العنف الكامنة فينا والملازمة للحياة نفسها إلى حد ما؟ ليس الحل بالطبع أن نبترها فنضعف  هكذا حيوية وجدت لتُعَبَأ كلها في خدمة الله، وليس المطلوب أيضًا أن نكبتها بالمعنى الفرويدي، أي أن نتجاهل وجودها، مما يهدد التفكك والإنفجار. إن الغرائز الإنسانية ليست شراً بحد ذاتها، إنما هي ملتبسة ككل قوى الإنسان الساقط الجريح، ولذا ينبغي أن تمر في سر الصليب لتتنقى وتستقيم. لا ينتظر الرب منا إذا أن نكبت أو نبتر طاقة العنف فينا، بل أن نضبطها بوعي ونهذبها ونوجهها ونسخر قوتها في اتجاه خيّر. وبعبارة أخرى ينبغي “تصعيد” طاقة العنف فينا إلى مستوى المحبة. وهكذا نسيّر هذه الطاقة الهائلة عوض أن تسيرنا وتستعبدنا، ونخوض بها حرباً ليست كحروب البشر مع انها، على حدّ تعبير الشاعر رامبو Rimbaud، لا تقل عنفاً عنها. انها الحرب الروحية، التي لا حقد فيها، ضد الشر فينا وحولنا، انها غيرة آكلة على قضية الله في الأرض، لأنه “مكتوب غيرة بيتك أكلتني” (يوحنا 2: 17).

 

 

 

إلى هذا الكفاح لا إلى الإستكانة والركود يدعونا يسوع حين يقول: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً” (متى 10: 34) وأيضاً “ملكوت السموات يغتصَب والمغتصبون يأخذونه عنوة” (متى 11: 11).

 

ان العنف الوحيد اللائق بالله والجدير بالإنسان هو عنف المحبة، تلك المحبة التي لا تعرف الراحة، على حد تعبير فرنسوا مورياك، إذ إنها لهيب متأجج: “إني جئت لألقي نارًا على الأرض وما أريد إلا اضطرامها” (لوقا 12: 49).
1963

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share