الحشمة

mjoa Saturday April 21, 2012 182

في اللغة الحشمة هي الحياء أو الاستحياء. اللفظة في ترجماتنا العربية تتعلق بالمرأة. والمعنى هو نفسه بالترجمات الفرنسية. وما يرفضه بولس في رسالته الأولى الى تيموثاوس هو التزين «بالذهب واللؤلؤ والثياب الفاخرة» (1 تيموثاوس 2: 9). الفكرة نفسها نجدها في احدى مواعظ يوحنا الذهبي الفم في نبرة شديدة.
في هذا الفصل عند بولس يرافق الحشمة «الورع والتعقل وتقوى الله بأعمال صالحة» كأنه يقيم تناقضاً بين العمل الصالح وغياب الحشمة أو ضعف الحشمة. حسب النص في رسالة بولس الاولى الى تيموثاوس يبدو أن ما يكرهه الرسول في الدرجة الأولى هو ترف الملبس والجواهر.

النص الأساسي في موضوع الحشمة هو ما ورد في سفر التكوين عن آدم وحواء لما قال: «وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان». بعد هذا بقليل يقول: «وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما» (تكوين 3: 21). وبعد أن أخطأ آدم «أخرجه الرب من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها» (تكوين 3: 23).
يتبين من كل هذا أن الخجل رافق اللباس، رافق أقمصة الجلد والعري عودة الى الخجل.

هذه هي الصورة في بدء سفر التكوين. هذه الصورة تعطينا الجدلية بين اللباس والعري.  العري استبعده الله بعد إعطائه الجدين الأولين أقمصة الجلد. وبعض اللباس ممجوج بسبب من مرافقته للذهب واللؤلؤ وما إليهما. هنا القضية متكونة من محبة الله للفقراء. يبقى أن اللباس مرافق للوضع الخاطئ الذي وقع فيه الانسان ونحن في وضع الخطيئة هذا. لذلك عندنا مشكلة اللباس وعدم اللباس أو مشكلة طريقة اللباس ومشكلة الأزياء إن أردنا أن نترجم الكلام الإلهي ترجمة اجتماعية.

***

في الكلام الحالي الحشمة تفيد التستر لكن هذه اللفظة لا تحتويها كلياً إذ الشخص المتستر يمكن أن يكون إباحياً.

المسألة كلها كامنة في حركة الجسم التي تنبثق من النية فهل التحرك هو الاسترضاء أو الجذب أو الإخضاع أو التسيير بحيث يأتي الجسد وما عليه قليلاً كان أم كثيراً وسيلة لإثارة هذه المشاعر أم يأتي لغة للتواصل الوجداني. بكلام آخر هل الجسد وصل بينه وبين عيون أم هو خطاب قائم ليتلقّى خطاباً آخر بحيث يكون المتخاطبون أشخاصاً يعطون حياة ويتفاهمون على مستوى الكيان الذي لا بيع فيه ولا شراء ولكن يبدو الكيان لكيان أو كيانات أخرى حديثاً إنسانياً غير مقول بكلمات لكنه تداخل أفكار وتعبير عن مشاعر بلا رهن ولا ارتهان.

من الواضح أن الثياب لا تنحصر وظيفتها بارتداء ما يقينا البرد أو الحر فالإنسانية جعلتها جميلة في كل العصور للذكَر وللأنثى وجعلتها للمقام (لباس عسكري أو ديني أو قضائي أو أكاديمي أو لعرس أو لحداد وما إلى ذلك). والتماس الجمال يفسح في المجال للحلال في ظرف تاريخي أو يسيء أو لما يعتبره الناس غلواً في الزينة وهتك العفة في جو حضاري محدد.

هنا نلحظ أن ما كان مرفوضاً في زمن يصبح مقبولاً في زمن آخر وما كان مثيراً في زمن يرتضيه القوم في زمان لاحق. يزيّن لي أن الحجب الكامل للجسم من الرأس الى الأرض من مستلزمات الطهارة عند بعض ومن القوم من اعتبر أن معظم الرجال يبقى نصيبهم من النقاوة قائماً دون هذا التشدد، الأمر الذي يعني تبدّل الأذواق بتبدّل الأزمنة والأمكنة.

ما لا بد من تأكيده أن المرأة في عصرها تعرف على وجه الوضوح ما يتقبّله القوم وما لا يتقبّلونه تبعاً للبلد الذي يعيشون فيه. لا يمكن أمرأة فائقة الجمال أن تخفيه مهما احتجبت ومهما قصدت عفّة نظراتها. لكن قصد النقاوة يساعد على حمل النقاوة كما أن سوء القصد أياً كانت صورة الاحتشام من شأنه أن يُحدث خللاً في العلاقات بين الجنسين.

***

على رغم كل النسبية في هذا الموضوع لكونه متحركاً يبقى عندنا تساؤل أساسي ليس متعلقاً بالمرأة وحدها وهو السؤال عن الإغراء. المغري هو ذلك الذي يريد إثبات أنه مهم، جذاب في هذا الحقل أو ذاك من الوجود ابتغاء استلذاذ الآخر بعقله أو شكله وليس ابتغاء التواصل الانساني. الرجل يستخدم الكلمة والكرم حتى يطوّع الآخر إليه. يكتب أحياناً  متوسلاً الانشداد إلى شخصه وليس من دفع قارئه إلى الحقيقة أو يستخدم أحياناً الحقيقة لكي يعود إليه لا إلى الحقيقة تقدير القارئ.

المرأة تسرّ بجمالها أحياناً كثيرة، تعرفه، تعرّف به وتغالي أحياناً في إبدائه لاعتقادها الصريح أو الضمني أنه أهم ما فيها وأنه هو الذي يستحق الاهتمام. وهذا الوصف ليس تعّدياً مني على أحد. ما قلته بأسلوبي قاله الفلاسفة الأبيقوريون بلغتهم قديماً.

ليس لمؤمن عداوة مع الجسد خصوصاً أن بولس جعله هيكلاً  للروح القدس وكلنا جاء منه. ولكن ما كان مقدساً إلى حد كلام بولس لماذا نجعله قبل الزواج أو الى جانب الزواج متعة للعين بتحويلنا إياه الى شيء وهو في لاهوت كنيستي بعض من صورة الله التي خلق عليها. وإذا حان ملء زمانه في الحياة الزوجية يصبح كلاماً غير منفصل عن الحب الزوجي وعن كلمة الوعد ونحن نصر على أن نقرأه بث منية للعين أو تلقّي منية للعين.

انعطفت أوروبا على هذه الرؤية في عصر نهضتها في القرن الخامس عشر وبان عند ذاك الجسد العاري والذريعة دراسة الجسد بحد نفسه مفصولاً عن قداسته وأهملت الحشمة بعد استبعاد الله عن الوجود حتى أعلن نيتشه موت الله وبعد هذا الكفر كان لا بد أن يجن نيتشه.

لا حاجة بعد هذا إلى عرض أزياء. أمست الدنيا كلها استعراضاً  كبيراً. هذه نتيجة محتومة لعبادة الإنسان كلامه المنمّق أو زينة جسده. لم يبق لنا أفق بعد أن صرنا أشياء. للرب وحده أن يعلن إيقاظه للروح إذا شاء أن يقول للإنسان إنه ليس فقط من تراب الأرض.

المطران جورج خضر – جريدة النهار

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share