موقف إيماني من الطائفية – سلسلة “الإنجيل على دروب العصر” – تعاونية النور – الطبعة الثالثة – 2005

mjoa Friday September 26, 2008 204

طبعات أخرى: منشورات النور – الطبعة الأولى – 1969

منشورات النور – الطبعة الثانية – 1983

 

maoukefimaniأين نحن اليوم؟

هذا الكتاب، الذي يعاد طبعه، أُلِّف بين العامين 1967 و1982. فأين نحن الآن من موضوعه، وقد انتصف العام 2004؟

الكتاب، في جوهره، نقد للطائفية من زاوية التديّن الذي نراه أصيلاّ. وخلاصته أنّ “الطائفيّة تزول اذا عاد الدين الى الطوائف”، كما قال أحد مؤسّسي حركة الشبيبة الأورثوذكسيّة في أوائل الأربعينات من القرن الماضي.

.

 

والآن نشهد في لبنان عودة للدين في كلّ الطوائف. فدور العبادة تنتشر وتتكاثر. وهي تمتلىء بالمصلّين عندما تقام فيها الشعائر، وإن كانت نسبة المواظبين بانتظام على ممارسة تلك الشعائر لا تزال ضئيلة على ما يبدو (وفي غياب الإحصاءات الدقيقة، التي نفتقدها، في حين أنّها شائعة في الغرب). وقد تزايد عدد رجال الدين المتعلّمين، وكثرت المنشورات الدينيّة، وظهرت محطّات إذاعة وتلفزيون تنطق باسم الأديان، وتكاثرت المدراس التابعة للجماعات الدينيّة، وتوزعت بين هذه الجماعات المؤسّسات الجامعيّة التي قفز عددها في لبنان الى رقم قياسيّ.

الدين يعود إذاً ، وهذا أمر ايجابيّ مبدئيًّا، ولكنّه لا يغني عن التساؤل: أيّ دين هذا؟ أيّ نوع من التدين؟

هنا لا بد من قراءة هذه الظاهرة في ضوء ما جدّ في العالم في الحقبة التي تلت صدور الطبعة الأولى من الكتاب. لأن ما حصل حينذاك من منعطف في التاريخ العالميّ المعاصر، كان لا بدَّ له من أن يترك بصماته على بلدنا والمنطقة، كما طال مجمل الكوكب الذي تحوّل كما هو معلوم الى “قرية كونية”.

فما هي الأحداث التي حوّلت في تلك الآونة وجه الكون؟ لقد انهار المشروع الانسانويّ الذي كانت الشيوعية تحمله رغم انحرافاتها، فترك فراغًا عظيمًا لا يتوقع أن يظهر ما يسدّه في المستقبل القريب. وخلّف انهياره إحباطًا لدى كلّ الذين كانوا يحلمون عبره بعالم توحّده العدالة وتجمعه المساواة، واذا بعالمنا يصبح ذا قطب واحد بعد أن كان يتنازعه قطبان، فاختل فيه ذلك التوازن الذي وإن كان مبنياً على الرعب، كان مع ذلك يحمي، في كثير من الأحيان، مصالح المستضعفين. وخلا الجوّ لدولة واحدة عظمى (وبالأحرى “سوبر عظمى” اذا صحّ التعبير) أتيح لها أن تسود وتميد من دون منازع، فانبرت تحاول فرض هيمنتها على الدنيا في كلّ الأصعدة، العسكري منها والسياسي والاقتصادي والثقافي. وانفلشت، بفعل ذلك، المصالح المالية الضخمة التي ترعاها هذه الدولة وتستأثر منها بحصة الأسد، انفلاشا لم يشهد له تاريخ البشرية مثيلاً حتى أيامنا هذه. فأخذت تأكل الأخضر واليابس، وتعمّق الهوة بين أقلية من المتنعمين (خمس البشر يستأثرون بأربعة أخماس موارد الأرض)، والسواد الأعظم من الناس، وعلى الأخص فئة المحرومين الذين لم تترك لحاجاتهم سوى الفتات.

ذلك كله دفع الجماعات البشرية الى ردة حاولت أن تحتمي بها ضد هذه الهجمة العالمية، فتحفظ ما بقي لها من كرامة وكيان. ولما كان أفق التحرر الانساني الشامل قد أصبح مسدوداً أمامها، إنطوت على ذاتها وانكمشت على خصوصيات تراثها، وأمعنت في التشبّث بهويتها، عرقية كانت أو قومية أو دينية أو مزيجاً من كل ذلك، رافضة كل انفتاح أو تفاعل باعتباره خطراً مميتاً يهدد هوية لها أحسّتها هشة ومحاصَرة. هكذا برزت أو تعاظمت، على الصعيد الديني، التيارات السلفية لدى جماعات مغلوبة على أمرها، تقوقعت على ذاتها وماضيها واستماتت في تأكيدهما عبر رفضها للآخر المختلف، حتى أقصى العنف أحياناً، وادارة الظهر لمستقبل لم تعد تتوقع منه سوى المهانة والاذلال والبؤس، ونبذ كلّ تغيير لأنها غدت لا تتوجّس منه الاّ التلاشي والضياع.

وتوزعت ظاهرة الانغلاق الديني على مختلف الأديان، فشملت لا الاسلام وحسب، كما يُظنّ خطأ بتأثير الضجة الاعلامية التي تثار حوله، بل المسيحية أيضاً بمذاهبها الثلاثة (وما تصدّع الحركة المسكونية الحاضر سوى أحد مؤشرات تلك الردة)، واليهودية والهندوسية، وتجلت ببروز العديد من الفرق الدينية Sectes ذات النهج التعصبيّ السلطويّ، التي تثير أحياناً شديد القلق باستحواذها المطلق على أذهان أتباعها وشخصياتهم، وبما تقدم عليه بين الحين والحين من أعمال الإنتحار والقتل الجَماعييَّن.

ألا تسمح هذه الأوصاف بتسليط الضوء على الوضع الذي تعيشه، في الوقت الحاضر، الجماعات الدينية في لبنان، وتتيح قراءة له تنفذ الى ما هو أبعد من المظاهر، وتساعدنا على الاجابة عن السؤال الذي سبق فطرحناه، ألا وهو: ما هي طريقة التديّن الذي تحياه قطاعات واسعة من هذه الجماعات إن لم يكن غالبيتها؟


أنا لا أجزم، لأن ليس لديّ المستندات الكافية لذلك، ولأنني أعلم أن كل واقع إنسانيّ إنما هو معقَّد ومليء بالمتناقضات، ولكنني أتساءل انطلاقاً من وقائع تتراءى لي سوف آتي على ذكرها.

 

• صحيح أننا “نتعايش” (تلك هي الآن الكلمة التي تردّدها الألسن وتتداولها كأنها طلسم سحري). ولكن هل تقاربت بالفعل أفكارنا وقلوبنا وأهدافنا؟ هل استطعنا بالحقيقة أن نتخطى الريبة والحذر والجهل المتبادل الذي يغذي تلك الآراء المسبقة التي يسقطها كلّ فريق على الآخر ويراه عبرها، والتي وطدتها مأساة الحرب التي عشناها؟
• “نتعايش”، ولكن من بعيد، رغم كوننا متجاورين ومتلاصقين في المدى. “نتعايش”، ولكن هل تجرأنا على مغادرة القلاع المعنوية التي تتحصن فيها جماعاتنا وتقيم فيها في نوع من الاكتفاء الذاتي؟ “نتعايش”، ولكن هل خرجنا بعضنا الى بعض لنتكاشف ونتلاقى حول أمور مصيريّة تمسّنا في الصميم ولا يزال يكتنفها الغموض والالتباس، وأوّلها الاقرار بمسؤوليتنا المشتركة عن نكبة الحرب التي دمّرنا بها بلدنا وأقحمناه في مأزق لا يزال يتخبط فيه الى الآن. أم أننا نكتفي بـ “طيّ صفحة الماضي” بدل أن نواجهه معاً بصدق.

• “نتعايش”، ولكن هل سعينا معًا باخلاص، الى غسل القلوب بالاعتراف العلنيّ بأخطائنا المتبادلة وتطهيرها، بالتوبة والانكسار، من الأدران التي ألحقتها بها المأساة التي عصفت بنا؟ أم أن كل فئة لا تزال تلقي التبعة كلها على الفئة الأخرى وتعتبر أن أعمالها هي، أيّا كانت بشاعتها، إنما كانت مجرد ردود فعل مشروعة أو على الأقل، معذورة؟

• “نتعايش”، ولكن هل تذكّرنا انّ “الانسان عدوّ ما يجهله”، فسعينا الى معرفة رصينة لما يعتقده سوانا انطلاقاً من مصادره هو، لا من الصورة التي نرسمها نحن عنه؟ هل بذلنا الجهد لكي نفهمه كما يفهم هو نفسه بدل أن نلصق به مفاهيمنا عنه؟ هل اخذنا على محمل الجدّ تلك “الرؤية المستقبلية” التي دعا اليها المفكر الدكتور أديب صعب سنة 1983 في كتابه “الدين والمجتمع”، والتي تقضي بأن تعلّم في المدارس ولكل طلابها، لا على سبيل الدعوة بل لغرض التعريف، فحوى الأديان والمذاهب الموجودة عندنا، مع إبراز نقاط التلاقي بينها على اختلافها؟

• “نتعايش”، ولكن هل خرجنا معًا الى العمل في الشأن العام، وبنوع خاص في خدمة المهمشين والمحرومين ومساعدتهم على امتلاك وسائل لتخطي بؤسهم، وذلك في اطار مؤسسات مشتركة بيننا، على غرار تلك “الحركة الاجتماعية” الرائدة التي أطلقها المطران غريغوار حداد في الستينات والتي كان لها أثر مغيّر؟ قناعتي أن لا يكفي أن تتعهد مؤسسة ذات لون ديني معين المحتاجين الى الرعاية بغضّ النظر عن انتمائهم الطائفيّ (فهذا، الذي هو أضعف الايمان، حاصل، والحمد لله، مع أنه يصادف، في حالات أخشى أن تكون كثيرة، شديد الاعتراض). بل ينبغي أن يلتقي أشخاص من انتماءات دينية مختلفة، ومن غير انتماء ديني، في خدمة واحدة للمحروم والملهوف، بوحي من اخلاص واحد للانسان فيه، أيّا كان لونه المذهبي، ومن تحسس واحد لحاجاته الانسانية على اختلافها. في زمن التشرذم الذي نعيشه اليوم، تُفتقد مبادرات كهذه كما “في الليلة الظلماء يفتقد البدر”.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share