عظة المطران جورج خضر في تأبين النائب الراحل فريد حبيب درسٌ في الأخلاق السياسيّة علّها تلقى آذاناً صاغية وقلوباً مجيبة. الواعظ يتوجّه في كلامه إلى الحاضرين، وبخاصّة إلى السياسيّين منهم، لا إلى الغائب الراقد، يعظهم بكلمة الله في سياقها الراهن. أمّا الراقد فليس له سوى الصلاة والدعاء بالرحمة والحنان يتنزّلان عليه من لدن الله. والمطران خضر شاء عظته تذكيراً “بمهمّة السياسيّين ورسالتهم السامية، “فذكّر إنّما أنت مذكّر. لستَ عليهم بمصيطر” (سورة الغاشية، 21-22).
يتوجّه المطران خضر إلى النائب الراحل بالقول إنّ الأمّة اللبنانيّة قد انتدبته “في ما يظهر من الوجود إلى الندوة البرلمانيّة. ولكن في ما نتوخّى من الفلاح انتدبناك إلى الحقّ”. عبر كلامه هذا شاء الواعظ أن ينبّه النواب الحاليّين إلى كونهم سيُدانون بمقدار ما كانوا أمناء على الحقّ في مهمّتهم بتمثيل الشعب في الندوة البرلمانيّة. فالمسيح “يريد لنا وجوداً سياسياً راقياً نقيّاً”. ثمّ ينتقد المطران خضر “الشطارة اللبنانيّة” التي “مَن احترفها ليس عنده مخافة الله، وتالياً ليس مندوبنا إلى الحق”.
كأنّ المطران خضر أراد أن يضع المسؤولين في الدولة أمام الحساب الإلهيّ المنسي لدى غالبية الناس، ولا سيّما أنّ الواعظ لا يعوّل كثيرًا على محاسبة اللبنانيّين لنوابهم، وهو قال في هذا الصدد: “لست أعلم إذا اللبنانيّون مهيّئون لإدراك هذا، أو أنّهم يعرفونه ولا يريدونه، لأنّ هذه الإرادة تذهب بمصالح وتحالف الكاذبين”. هذا الكلام ليس إعلانًا لليأس من قدرة اللبنانيّين على اختيار “الأبرار الأصفياء الأذكياء”، بقدر ما هو دعوة إلى التوبة للبنانيّين كافّة، وعلى رأسهم المسؤولين في الدولة.
في هذه الظروف التي تمرّ فيها الدول العربيّة، ومنها لبنان، ورؤوس الفتنة الدينيّة والمذهبيّة تطلّ من كلّ حدب وصوب، يأتي كلام المطران جورج خضر. خطابه صوت نبويّ، صوت نبويّ صارخ في برّيّة هذه البلاد، صوت نبويّ لا يهاب سلطاناً ولا يحابي الوجوه. الأنبياء لم يكونوا مثقفّي سلطة ولا كتّاب سلاطين ولا كهنة بلاط. كانوا صوت الله والناطقين بمشيئته، مهما كان ثمن إعلانها والدعوة إلى تنفيذها باهظاً. والمقصود هنا بالصوت النبويّ، وفق اللاهوت المسيحيّ، هو حين يذكّر الله عبر صوت أحد خائفيه الكنيسة والمجتمع بفروضهم بعضهم تجاه بعض وتجاه الله.
يسعنا القول إنّ روح إشعياء وإيليّا ويوحنّا المعمدان، الأنبياء الصادعين بالحقّ، قد حلّت على المطران حين دعا المسؤولين إلى العمل من أجل الحقّ، وما ينجم عنه من توبة وسلام وعدل وتراحم… وهذا يستتلي القضاء على “الشطارة” الإبليسيّة المهيمنة على السياسيّين، هذه الشطارة التي سبّبت الفتنة الطائفيّة تلو الأخرى منذ قرن ونصف قرن على الأقلّ إلى أيّامنا.
من هنا، قول خضر: “ليس لبنان تركيبة سياسيّة، إنّه مشروع حبّ”. الحبّ وحده، والحبّ اسم الله في المسيحيّة، يقضي على الشطارة.
درج في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وبخاصّة في البلاط القيصريّ الروسيّ، صنف من القدّيسين “المتبالهين بالله” الذين كانوا يقفون أمام القياصرة والأمراء يوبّخونهم على خطاياهم وإهمالهم خدمة الفقراء والمحتاجين. وكان هؤلاء المتبالهون بالله أنبياء الأمّة في زمانهم، اذ كانوا لا يخافون ما يخافه الآخرون، أي النطق بالحقّ في وجه سلطان جائر. المطران خضر، المتباله بالله، نبيّ هذا الزمان. إلى سنين عديدة يا مولانا الحبيب.
