حمص، تلك الصورة البهيّة عن سوريا في تنوّعها الديني والمذهبي والقومي والوطني والحزبي، صارت، روحاً وجسداً، خراباً. حمص المدينة التي احتضنت، على مر الحقب والأزمنة، السنّة والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين في مختلف طوائفهم هجرها أبناؤها، طوعاً أو قسراً، إلى مناطق أكثر أماناً. حمص، معقل القوميين العرب والقوميين السوريين والشيوعيين والعلمانيين والوطنيين والمجاهدين ضدّ الاستعمار الفرنسي وضد الصهيونية، تكاد تفقد هويتها لمصلحة المذهبيين وأصحاب المشاريع الظلامية.
حمص، المدينة العريقة التي قبلت المسيحية منذ نشأتها، ودخلها الإسلام مع الفتح العربي، ظلّت محافظة على طابعها التعدّدي على رغم كل الحروب والنزاعات والاضطهادات التي عصفت، عبر التاريخ، في سوريا وبلاد الشرق عموماً. هذه المدينة تكاد تدفن هذا التنوّع الذي ميّزها دائماً لمصلحة الفتنة الدينية والمذهبية. فالفرز المذهبي واحتلال المنازل وطرد أصحابها جارٍ على قدم وساق. وآخر ما سيق في هذا الصدد تهديد، لا ندري مدى صحته، تلقاه مسيحيّو بلدة القصير، القريبة من حمص، لهجر بيوتهم ومغادرة بلدتهم.
حمص، مدينة الكنائس والمساجد والحارات والأسواق القديمة، دمّرها الحقد الأعمى. ومَن يدمّر المعالم القديمة إنّما يبتغي اغتيال التاريخ عبر تغيير الجغرافيا، ويبتغي أيضاً القضاء على روح المدينة ونبضها. وما ضرب الحارات الوادعة والأسواق الداخلية سوى محاولة لضرب التجاور والاختلاط والتشارك ما بين أبناء المدينة الواحدة. وما ضرب الكنائس وتدميرها سوى محاولة لطمس تاريخ التنوع الديني والتعايش والاحترام المتبادل في حمص خصوصاً، وفي سوريا عموماً.
لا يقتصر حزننا على تدمير كنائس حمص التاريخية، بل هو ينبع بدءاً من التحارب ما بين أبناء الوطن الواحد، ومن الاستهتار بأرواح المواطنين السوريين، ومن عبثيّة الحروب الدائرة هنا وثمة، ومن عدم وجود طروحات ولا بدائل معقولة لوضع حد للأحوال المتردّية. ويزيد على حزننا حزناً أعظم أنّ الصراع تحوّل، أو يتجه نحو التحول، إلى صراع تؤدّي فيه العصبية الدينية والمذهبية الدور الأكبر في التحشيد والتشجيع على القتل والتهجير.
في كلّ حال، إنّ أهل حمص من كل الطوائف والتوجهات السياسية هم الذين يدفعون الثمن غالياً من أرواحهم ومن أرزاقهم. والمسيحيّون هم جزء من هذا النسيج الحمصي المتنوّع، وهم يدفعون ثمن الشركة الوطنية والإنسانية التي تجمعهم مع سائر الحمصيين، سنة وعلويين. وهم يتوقون إلى دولة مدنية يتساوى فيها المسلمون والمسيحيون في الحقوق والواجبات، ويكون لهم فيها حقّ المواطنة الكاملة غير المشروطة. وهم، قطعاً، ضد الدولة المتجلببة بالدين، وضد الدويلات المذهبية. هم مع سوريا الدولة الواحدة المتنوّعة والمدنية، والتي تحترم مبدأ تداول السلطة وفق الآليات الديموقراطية المعتبرة.
إذا كانت الأمور في خواتيمها، فالمسيحيون سيؤول حزنهم إلى فرح إذا ما انتهت الأزمة السورية إلى ما يتوقون إليه. وسيعتبرون أرواحهم وكنائسهم التي دُمّرت ثمناً مباركاً كان لا بدّ منه في سبيل نهضة سوريا دولة لجميع أبنائها. أما إذا كانت الأمور تتجه إلى مزيد من التشرذم المذهبي، أو إلى قيام دويلات أو إمارات دينية ومذهبية، فحمص لن تبقى وحدها رمزاً للمآسي والجنون، بل ستنضمّ إليها مدن عزيزة أخرى. رجاؤنا أن تكون حمص أول العنقود وآخره.