تفتخر تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع باستضافة تأمّلات المطران سابا (إسبر)، متروبوليت بصرى وجبل العرب، حول مواضيع رعائيّة مهمّة وتساؤلات مختلفة يشعر مَن يطالعها أنّها تشكّل له قضايا مصيريّة. واضح أنّ مصير الإنسان المسيحيّ، بالنسبة إلى المطران، يتمحور حول إيصال كلمة يسوع ووجه “المنير والدامي في آن”، إلى النفوس المتعطّشة إليه. الهمّ الأساس، إذًا، هو أن نجعل وجه الربّ يبرز ساطعًا عبر الغبار التي نكدّسها عليه باستمرار من جرّاء ضعفاتنا كأشخاص ورعيّة. لا رعاية بدون هذا الهمّ. لا معنى لكلّ النشاطيّة التي تسود أوساطنا الكنسيّة إن لم تُسخّر لهذه الغاية.
أن نسلّط الأضواء كلّها على يسوع السيّد، يعني أيضًا أن نسلّطها على جسده، شعب الله الذ يشكّل كنيسته في اللقاء الإفخارستيّ، ,أن نسهر أن يكون هذا الجسد شاهدًا ليسوع بتعاضد أعضائه ومحبّتهم لبعضهم البعض، “لكي يؤمن العالم” به. غالبًا ما نتسائل لماذا يتبعاد عالم اليوم باطّراد عن المسيحيّة، ونفتّش على الأسباب في ما تحمله الحداثة من تحدّيات، وفي نزعة مجتمعات الاستهلاك الفاحشة، وغيرها من الأسباب دائمًا المتعلّقة بالغير. لا بدّ أن يكون لهذه الاسباب دورًا. لكنّ نتناسى أنّ السبب الرئيس يكمن فينا، لأنّ رعايانا ما عادت تُجسّد جماعات محبّة، خادمة، معطاء. وما عاد في كثير من الأحيان يرى فيها القريب والغريب وجه يسوع الناصريّ الذي أعطى ذاته من أجل خلاص الجميع.
يطرح المطران سابا، في الكتاب الذي بين يديك، أيّها القارىء، بتواضع وجرأة في آن، كلّ هذه التساؤلات على ضميره أوّلاً وعلى أبناء الكنيسة جميعهم. كتابه محوريّ، إذ لم تعد كنيسة أنطاكية معتادة، منذ أمد ليس بقصير، على طرح مشاكلها الحياتيّة والمصيريّة بصراحة ووجع، مكتفية بالترداد والتبجّل بما يمنّه عليها الروح من إنجازات. يذكّرنا بمقالات المطران جورج (خضر) في أوائل النهضة التي تزخر بها أعداد مجلّة النور القديمة، وبعض كتب منشورات النور، ك”إنطاكية الجديدة” و”ثماني كلمات في الرعاية” مثلاً، وبتأمّلاته المستمرّة الأسبوعيّة في أكثر من مكان، وعظاته أثناء سيامته كهنة التي جُمعت في كتاب صدر عن تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة، والتي يواجه فيها كلّها مواضيع الرعاية الشائكة. وما عدا عظة هنا وهناك، لا يبدو أنّ أحدًا من الأحبار الآخرين جاد في البحث بها ومعالجتها.
يأتي هذا الكتاب في سلسلة جديدة أرادت تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة تإطلاقها بالضبط من أجل التتطرّق إلى مثل هذه المواضيع التي تعيق إيصال الكلمة الإلهيّة وتُزعزع وحدة شعب الله. احتوى الكتاب الأوّل من السلسلة على آراء إخوة، كهنة وعلمانيّين من أرض أنطاكية، حول المواهب في الكنيسة، وكيف تميل المؤسّسة فيها إلى طمسها. وأنّه من الضرورة بمكان أن يُصار إلى إيجاد هيئات مشاركة، تشجّع تلاحم أبناء الكنيسة الواحدة والاهتمام بكلّ شؤونها سوية، بريادة أسقفهم، الذي يبقى دومًا الأوّل بين إخوة متساوين.
أمّا الكتاب الثاني في السلسلة، فيجمع مقالات من أساقفة ولاهوتيّين أرثوذكسيّين كبار (غير أنطاكيّين) حول مواضيع المواهب والعلاقة بين الراعي والرعيّة ومسؤوليّة العلمانيّين في الكنيسة ودورهم. كما يتطرّق إلى الأمور التي تتطلّبها رعاية الناس في عصرنا الذي ثكثرفيه التحدّيات.
أمّا هذا الكتاب الثالث، قيجمع محاضرات ومقالات للمطران سابا (إسبر) حول المواضيع نفسها، لكن ليس من حيث المبادىء والرؤية الإنجيلي!ة وحسب، كما في الكتابين الأوّلين، بل في مقاربة عمليّة تنطلق من المعضلات التي يواجهها الراعي في سعيه لإيصال الكلمة.
ينطلق الكتاب من التآكيد أنّ يسوع المسيح “هو هو الأمس واليوم وإلى الأبد” (عبرانيّين 13: 8)، وأنّه “ظهور الله الأكمل” الذي “يستمر في الكنيسة بنعمة الروح القدس” (ص. ؟؟؟). ويؤكّد أنّه، باتّحاد اللاهوت والناسوت فيه،”الغاية والهدف من خلق العالم وإبداعه من جديد”(ص. )، ويبقى “صليب المنطق البشريّ ومعضلته” (ص. ؟؟؟).وأنّه “يلزم كنائسنا الكثير من التواضع والكثير من القدّيسين حتّى تبقى أمينة لسيّدها وتنقله إلى العالم الذي يحتاجه” (ص. ؟؟؟). بيسوع “نستلم العالم كهديّة”، ساعينا إلى تحويله، إلى تجلّيه، “كمؤمنين شاكرين” (ص. ). ف”الإنسان إذًا كاهن الخليقة… وملكها”، يبدىء تجلّي العالم منه وفيه. في رعايته للعالم، يتعرّض الإنسان والكنيسة التي تحتضنه إن كان مسيحيًّا، أن يُنزلا العالم إلى قياسهما، بدل أن يقدّساه. فبدل أن يحارباه بأسلحة الروح، تتفشّي فيهما روح الدهريّة. فيتكلّمان “عن الله كثيرًا، وغالبًا ما يكون الله موضوع تشريح وتحليل، فكرة إيديولوجيّة، ويغيب بالتالي وجه الله الحياة،… الذي يرعى شعبه” (ص. ).
بعد تركيزه هذا على محوريّة المسيح، يتوقّف أسقفنا عند “الكنيسة كجسد الربّ وجماعة مواهبيّة” (ص. ). وانطلاقًا من قول بطرس الرسول في رسالته الأولى إن المسيحيّين هم “ذريّة مختارة وكهنوت ملوكيّ وشعب اصطفاه الله”، يقرّ أنّه يوجد “تشويش بين عبارتين نستخدمها في الكنيسة، وهي “علمانيّ” و”إكليريكيّ”. فغالبًا ما نقسّم شعب الله إلى فئتين… وهذا فصل غير موجود في الكنيسة الأولى وغير موجود في الفكر الأرثوذكسيّ. إذ نحن كلّنا كهنة وكلّنا علمانيّون” (ص. )، أذ مشتركين في الكهنوت الملوكيّ وأعضاء في شعب الله (اللاوس). “فكل عضو في شعب الله لديه موهبة يجب أن يثمّرها… كلّ عضو له وظيفة… سلامة (جسد الربّ الكنيسة) تكون بتكامل الأعضاء مع بعضهم البعض… كلّ المىهب موجودة في الكنيسة من أجل الخدمة… فهناك خدمات خاصّة (الكهنوت الوظائفيّ الأسراريّ) وخدمات عامّة… لكنّ الاختلاف في الخدمات لا (يبرّر) الفصل الذي ذكرناه. هو اختلاف وظيفيّ وليس اختلافًا كيانيًّا… ففي كنيستنا، الكاهن له دوره، والمطران له دوره وخدمته، والمؤمن له دوره وخدمته، والمرأة لها دورها وخدمتها…هذا يعني أنّه إذا رُسم فلان كاهنًا لا يأخذ الروح القدس أكثر من الإنسان الذي هو مؤمن ولم يُرسم كاهنًا، بل صارت لديه وظيفة نتيجة رسامته أن يتوسّل الروح القدس ونِعَم الروح القدس للمؤمنين. لكن هذا لا يعني أنّه يقتني الروح القدس أكثر من غيره… لمجرّد حصوله على الكهنوت الأسراريّ” (ص. ). فلا يوجد في الكنيسة موهبة واحدة تخصّ الكهنة والمطارنة. “كلّ المؤمنيم موهوبون. فمنهم مَن يعلّم، ومَن يرتّل، ومَن يترجم، ومَن يخدم الفقراء. الروح واحد، لكنّ نِعَمه ومواهبه تُعطى… لأعضاء جسد المسيح بتنوّع بحسب حاجة الكنيسة” (ص. ). “فالأسرار التي تتمّ في الكنيسة تتمّ بمشاركة المؤمنين مع بعضهم البعض،… كلأٌ يقوم بدوره” (ص. ) وهذا جليٌّ في القدّاس الإلهيّ حيث يظهر “صفاء التناغم بين الإكليروس والعلمانيّين” (ص. ). “فالكنيسة إذًا تتّسع للجميع” (ص. ).
فبعد هذا التذكير بمقوّمات الإيمان المستقيم، يلاحظ المطران (وهو ربّما الوحيد بين أحبارنا) “صراعًا هادئًا بين الإكليريكيّين والعلمانيّين. فمن جهة العلمانيّون… تراجع دورهم في الكنيسة… وبرز دور الإكليروس، وكأنّه يدير كلّ شيء… ممّا ساهم في انتشار مفهوم يحصر المسؤوليّة بالإكليروس ويعفي العلمانيّين من مسؤوليّاتهم، إلاّ في مجالي طاعة الإكليروس وتنفيذ توجيهاته” (ص. ). يخلق هذا المفهوم جوًّا غير صحّيّ في الكنيسة، حيث “الفعل وردّ الفعل”. ويخلص المطران إلى القول إنّ “أيّ صراع من أيّ نوع كان في الكنيسة هو خسارة لها. أيّ تطرّف ليس من الروح الأرثوذكسيّة. وأيّ تغييب لأحد يتعارض مع التعليم الأرثوذكسيّ. الكنيسة الأرثوذكسيّة، لكونها مؤسّسة إلاهيّة، قائمة على التناغم بين الروح القدس والنفس البشري، بين العلمانيّين والإكليريكيّين، بين المتعلّمين والمعلّمين، بين الرهبان والكهنة، بين الإداريّين و”الروحيّين”، بين المنظّرين والعمليّين” (ص. ). ويختم كلامه بالإقرار أنّنا “بحاجة إلى استعادة مفهوم الكهنوت الملوكي، ووعي قضية تكريس المؤمنين الكامل لله في سرّي المعموديّة والميرون، معرفة أنّ سرّ الكهنوت ليس تكريسًا حصريًّا، بقدر ما هو موهبة خاصّة يمنحها الروح القدس لأشخاص ينتقيهم للقيام بدورٍ أساس في الكنيسة” (ص. ).
ويتطرّق أيضًا سيادته إلى القوانين الأنطاكيّة التي وُضعت من أجل تكثثيف المشاركة بين سائر أبناء شعب الله وتنظيمها، والتي لم تنجح، ولم يُبذا أيّ جهد من قبل المطارنة أو المجمع المقدّس لإنجاحها. ويقرّ أنّ “أهمّ أسباب عدم نجاحها هو أنّنا فصّلنا قانونًا بحسب لاهوتنا، ولم نبذل جهدًا لنرتفع إلى مستواه. علينا تنميذ أولويّة الانتماء إلى المسيح على كلّ الأولويّات الأخرى. ونخرج من إطار الكنيسة الحجر (المعبد) إلى الكنيسة البشر” (ص. ). إنّ عدم السعي الجدّيّ إلى تطبيق القوانين وتفعيلها خلق “ابتعاد نفوس كثيرة عن العمل الكنسيّ، وانعزال مؤمنين كُثُر عن علاقة فرديّة بينهم وبين ربّهم، وغيابهم عن عائلة الله الكنيسة، هذا إذا لم ينسلّ الكثيرون إلى كنائس أخرى هربًا واشمئزازًا من النزاع والشقاق وروح الخلاف” (ص. ). قلّما نسمع أسقفًا يعترف بهذه الشفافيّة عن الأوضاع الناتجة عن تخاذل القيادة الكنسيّة في توطيد المشاركة الصحيحة بين أفراد الرعيّة، كي “لا يزداد روح التغرّب بين أبنائنا الذين هم في قلب الكنيسة، ويشعرون بأنّهم ليسوا في المكان الذي عرفوه، وعاشوا فيه حلاوة الشركة الكنسيّة” (ص. ). وبعد أن يعرض بعض الأوضاع الشاذة التي تعيق حسن الرعاية في كنيسة أنطاكيّة، يطرح أسقفنا بحزن بليغ على ضمائرنا هذا السؤال المصيريّ: “أكنيستنا هي على قياس المسيح، أم على قياسنا؟” (ص. ). لكي تكون رعاية كنيستنا عل قياس المسيح، لا بدّ “أن نواجه احتياجات المؤمنين بذهنيّة نقيّة ومرِنة تحترم التراث وتستوعب المستجدّات وتستلهم الروح القدس في أيّ قرار أو اختبار” (ص. ).
ثمّ يتوقّف المطران سابا عند أمور عمليّة لا بدّ من الاهتمام بها للوصول إلى رعاية بحسب قلب الله. فيتكلّم أوّلاً على ضعف روح البشارة والتنشئة الدينيّة والتربية (راجع “البعد التربويّ في الكنيسة” (ص. ) و”خواطر في التربية اليوم” (ص. ) في كثير من أوساطنا، وعدم اكتراث المؤمنين بها. ويرى في ذلك علامة غاية بالخطورة عن أوضاع كنيستنا المتقهقرة. ألم يقل الرسول: “الويل لي إن لام أبشّر؟”. فما عسانا نقول، نحن الذين حذفنا من قدّأس الموعوظين كلّ إشارة لهم، اعترافًا ضمنيًّا أن لا موعوظين لدينا؟ نحن بحاجة ماسّة إلى تجديد أساليب تربيتنا، وذلك لن يتمّ سوى “بتعاون جميع الذتن تأكلهم الغيرة على الإيمان والعمل معًا، ليخرجوا بما يفيد كنيستهم ويحييها” (ص. ).
ثمّ يبحث بالقوانين الكنسيّة المتعلّقة بالصوم وسواه من “الفرائض” الكنسيّة، ويقول إنّ “دليل القانون الكنسيّ هو خلاص المؤمنين”. وإنّه يجب تفادي، عند تطبيق القوانين، تجربة “المغالاة في التطبيق الحرفيّ الذي يجعل من القانون هدفًا بحدّ ذاته… وتجربة إهمال القانون واللامبالات تجاهه، فينتقي المرء من شرائع الكنيسة ما يرضيه ويهمل ما يزعجه” (ص. ). علينا إذًا رفض كلّ صنميّة تُعطى للقوانين بدون إهمالها. الموضوع ليس في جواز القانون أم عدم شرعيّته، أو إن كان يلائم الواقع الاجتماعيّ المعاصر أم لا. الموضوع في إفادة الإنسان من القوانين. إن فقدت دورها في خلاصه، لا بدّ من تعديلها، وتطبيق مبدىء “التدبير” الذي يجعل الكنيسة تنظر أوّلاً لخلاص أبنائها، آخذة بالاعتبار بمحبّ وحنان أوضاعهم الخاصّة. ولكن ذلك يستدعي دراسة جدّيّة من قبل المسؤولين الكنسيّين”للأوضاع والحالات التي تستدعي التساهل في تطبيق القوانين… حتّى تعمّم… على جميع الأبرشيّات” (ص. )، فلا يكون التفاوت أو التناقض في التطبيق الحاليّين الذين يشكلان عثرة لكثير من المؤمنين.
بعد ذلك، صفحات في الكاهن ومشاكله في الكنيسة، تنطلق من الواقع المعاش، لا تكتفي بمقولات لاهوتيّة لا تمتّ على هذا الواقع بصلة. يُستشفّ منها أنّ معظم أبرشيّاتنا تعاني مشكلة حقيقيّة بشأن معيشة الكاهن، تحافظ في آن على كرامته والاداء السليم لخدمته، بينما يفوق مدخول الكهنة في أبرشيّات أخرى بكثير المستويات المطلوبة من أجل العيش الكريم. البعض يعاني. والبعض يتنعّم. ولا شعور بالتعاضد بين الإخوة إذ تتحصّن كلّ أبرشيّة داخل حدودها، وكأنّها لا تشكّل جسمًا واحدًا في المدى الأنطاكي. لا يتوقّف المطران سابا عند هذه الأمور إلاّ تلميحًا، مكتفيًا باعطاء اقترحات عمليّة مبنيّة على الخبرة للمساعدة في إيجاد نظرة متوازنة لهذا الموضوع، يُستحبّ أن يتأمّلها، ليس فقط الكهنة أو الشمامسة، بل جميع المؤمنين الملتزمين.
ويتطرّق بعدها إلى مكانة الشمّاس، هذا الخادم بامتياز في الكنيسة الأولى، والذي يختصر دوره في ممارستنا على الأداء الليتورجيّ مساعدة الأسقف أو الكاهن. ويدعو إلى استعادة الدور الأصليّ القديم وتعميمه، وإلى البحث الجدّيّ في إعادة إيجاد درجة الشمّاسات.
وبعد أن تتطرّق إلى خدمة الاسرار والرعاة، ينظر المطران في بعض الرعيّة. فيتوقّف عند الشباب الذي يتعرّض اليوم إلى شتّى التحدّيات التي تبعده عن الكنيسة. ويدعو إلى دورً فعّال للكنيسة في مساعدتهم لمواجهة هذه التحدّيات والتصدّي لها. ومن الأمور الأساسيّة أن تنشر الكنيسة “ثقافة الحوار والمشورة… واستعادة الروح المجمعيّة لكي تعود الكنيسة التي تضمّ الإكليروس والعلمانيّين، عائلة واحدو تتدارس بكلّ رقيّ حضاريّ ومحبّة مسيحيّة أوضاعها” (ص. ) مشركة الشباب في إيجاد الحلول لأحوالهم ضمن العائلة الواحدة، و”المساهمة في صنع وتنفيذ التوجّهات العمليّة لنشر الشهادة المسيحيّة” (ص. ). “فالشبيبة بحاجة ماسّة إلى مثال عمل كنسيّ شهاديّ ناجح (مؤسّسة، تيّار) يستقي لاهوته وسياسته وتنظيمه وخدمته من الإنجيل والروحانيّة الأرثوذكسيّة” (ص. ).
وبعد الشباب ينظر المطران بفئة كبيرة أخرى من الرعيّة، ألا وهي الفقرأ. فيذكّرنا بالنظرة الكتابيّة إليهم، وبأقوال كبار آباء الكنيسة بضرورة العطاء الذي هو “باب الرحمة” (ص. ، يعتقنا من الدينونة (ص. ) ويجعلنا “نتشبّه بالله” (ص. )، و”يمنحنا بركات روحيّة ومادّيّة (ص. )، و”يعلّمنا الاتّكال على الله” (ص. )، و”يُسهم في تقويم علاقتنا مع الله” (ص. ). فالرعيّة التي لا تهتمّ بفقرائها لا علاقة لها حقيقيّة مع الربّ.
وبعد مرور سريع على ضرورة السهر على الأوقاف الكنسيّة واستثمارها لتأمين المال الكافي، ليس أوّلا وفقط لتجميل الكنائس، كما يفعل الكثيرون، بل خاصّة من أجل الاهتمام بالفقير وتأمين نفقات النشاطات الرعائيّة التي يقترح ألاّ تنحصر على السهرات والحفلات المختلفة، بل أن تمتدّ إلى نشاطات الشباب والأولاد الروحي والترفيهيّة، وخدمة المرضى والمسنّين من أبناء الراعيّة وخارجها، وغيرها من النشاطات. وأن نسهر أن تكون نشاطاتنا كلّها “مطابقة مع إنجيل الربّ، حتّى يمنحنا الله إمكان “تغيّير الذهن والتوبة وليبارك كلّ شيء فينا اسمه القدّوس” (ص. ).
وينتهي الكتاب بثلاثة مقالات حول “الأخلاق وأزمة الحضارة الإنسانيّة” (ص. ) و”الكنيسة والحداثة” (ص. )، و”الآباء وتحدّيات العصر” (ص. ) تُعطي نظرة محدقة وصائبة على المشاكل التي يواجهها إنسان اليوم، في عالم لم يعد يعرف “احتضانه “احتضانًا محبًّا” وقلّت في”الشهادات الحيّة”، ليعرف فرح العيش في حضن الله” (ص. ). وينصح ألاّ نخاف أمام تغيّيرات الي تحدثها الحداثة، وألاّ نرفضها جملة وتفصيلاً، بل أن نواجهها بثقة الذي يعرف أنّ ربّه قد غلب العالم. “يجب أن تقف الكنيسة على الماضي، منشدة إلى المستقبل، فاعاة في الحاضر. لا تتسرّع لئلاّ يطغي العنصر البشريّ بأهوائه على العنصر الإلهيّ فيها. ولا تتباطأ لئلاّ تمنع العنصر الإلهيّ من إلهامها حول عمل اللازم لتقديس العنصر البشريّ فيها. لنذكر الصليب بقامته العموديّة وعارضته الأفقيّة المتماسكتين بصلابة، علّه يكون مثالاً أمامنا لئلاّ ننسى” (ص. ) ضرورة الشهادة، كما فعل آباؤنا أمام تحدّيات عصرهم.
أرجو أن تشجّع هذه السطور على مطالعة دقيقة ومنتبهة للكتاب لأنّه يفتح آفاقًا واسعة أمام مَن يريد حقًّا أن يعالج بجدّيّة كلّ ما يعيق إبراز وجه يسوع في كنيسته. أطال الله عمر المطران سابا، وجعله إلى سنين عديدة “قاطعًا باستقامة كلمة حقّه”. يتطلّع شعب الله بشغف إلى أساقفة بحسب قلب الله، يقيمون رعيّتهم من بين أموات الجهل وانعدام الرعاية التي تركها فيها رعاة لا يهمّهم سوى الجاه والتسلّط، كما كانت الحال قي أبرشيّة حوران وجبل العرب، قبل أن يتسلّم مصيرها بتفانٍ وإخلاص المتوبوليت سابا.