دير سيدة البلمند الأثري: شاهد للتاريخ وممهّد للمستقبل …

mjoa Monday August 20, 2012 181

balamand1إنها “التلة الجميلة” أو الـBelle Mont بالفرنسية التي أصبحت اليوم ما يُعرف بـ”البلمند”. إنها جميلة بالفعل بهضابها الخضراء المحيطة بها من كل جهة وبإطلالها على شاطئ طرابلس ومن خلاله على البحر الأبيض المتوسط حيث تتلاصق السماء بالأرض في أفقه… وقد يكون أكثر ما يزيدها جمالاً وتألقاً ديرٌ عمره 900 سنة، يشهد بجرسيّته الأثرية والوحيدة في الشرق الأوسط دون ترميم، وبأيقوناته الفريدة على جانب من التاريخ الحافل لمسيحيي المنطقة…

 

 

دير سيدة البلمند البطريركي: تاريخ محفوظ بأمانة!

يقع دير سيدة البلمند على بعد ثمانين كيلومتراً شمالي بيروت على تلّة مطلة على البحر المتوسط. هناك ازدهرت، منذ 10 قرون، حياة الدراسة والتعليم والصلاة.

“بني هذا الدير على يد الرهبان السسترسيون، وهي رهبنة لاتينية أتت في القرن الثاني عشر إلى لبنان ولم تعد موجودة اليوم. أسست الدير عام 1157 على شكل قلعة بعد الحملة الصليبية الثانية، وتركت الدير قبل استيلاء السلطان المملوكي قلاوون على طرابلس عام 1289 بفترة قليلة”، وفق ما أكد الأب ديميتريوس خلال جولة لـ”النشرة” في الدير. وأشار إلى أنه “وبعد ثلاثة قرون على رحيل الصليبيين، أتى الأرثوذكس إلى الدير، وتحديداً من خلال رهبان قدموا من حلب، فانطلق الدير بعشرة رهبان ما لبثوا أن أصبحوا سنة 1610 ، 25 راهباً”. وكان الرهبان، إلى جانب حياة الصلاة والعبادة، يعملون في الأرض ويكتبون المخطوطات وينسخونها ويستقبلون الضيوف أو اللاجئين من الإضطهادات في الأوقات الصعبة. وبالإضافة إلى ذلك أسسوا مدرسة للأيقونات، إلا انهم هجروا الدير بعد حوالي الـ200 سنة تاركين خلفهم أيقونات حلبية فريدة وجميلة جداً. وفي العام 1860، بحسب الأب ديميتريوس، أصبح الدير أيضاً إكليريكية وهو اليوم ديراً بطريركياً.

balamand2لم يعد هناك رهبنة ثابتة في الدير، بل هناك رئيس للدير، وهو المطران غطاس هزيم ووكيله، إلا أن طلاب اللاهوت يأتون إليه ومعهد اللاهوت في جامعة البلمند مرتبط به “وهذا العام، لدينا 50 طالب كهنوت ومن هنا يتوزعون على الأديرة الأرثوذكسية في العالم أجمع وفي القارات الخمس”.

وكما جرت العادة أن تتشكل قرى بأكملها حول الأديرة في لبنان قديماً، فإن هذا الدير لا يشكل استثناء: فقد أسس هذا الدير إكليريكية وثانوية ومعهداً للاهوت وبعد ذلك أنشأ جامعة البلمند، فأصبح، ورغم المسافات الكبيرة التي تبعده عن بيروت، ورغم بعده نسبياً عن مدينة طرابلس (ليس في إطار عاصمة الشمال)، مقصداً لعدد كبير من الحجّاج ومن قاصدي العلم والمعرفة. فيحيط به مراكز تربوية مهمة تابعة لبطريركية أنطاكية للروم الأرثوذكس وهي: معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي، وجامعة البلمند، وثانوية سيدة البلمند بفرعيها الإنكليزي والفرنسي. وبالقرب من الدير إذاً، جوّ جامعي وشباب يتجولون والحياة تضجّ من حوله… أما في الدير، فصمت وتأمل وخشوع وأيقونات جميلة ترفع القلوب إلى العلاء لما فيها من عمق فنّي وديني.

balamand3

أيقونات فريدة ومخطوطات تعود لقرون وقرون…

وفي الواقع، فقد أنتج الدير أيقونات ومخطوطات وأوان كنيسية وثياباً كهنوتية كثيرة. ومن بينها أيقونة العذراء العجائبية المرشدة المؤرخة عام 1318 وتعود إلى القرن العاشر. أما مجموعة أيقونات الدير فتكونت خلال فترتين أساسيتين من حياة البلمند ونموه. وتمتد الفترة الأولى من نهاية القرن 17 إلى بداية القرن 18 ومعظم أعمال هذه الفترة موقّعة باسم المصور الحلبي نعمة المصور. وتجدر الإشارة إلى أن المدرسة الحلبية أنتجت أروع أعمال الفن المسيحي المشرقي ما بعد البيزنطي، وهي تتعدى كونها مجرد إعادة لنتاج مستنفد لتنمّ عن ابتكار أمين ومجدّد شعّب التقليد الموروث وأحياه.

أما الفترة الثانية، فتقع في النصف الثاني من القرن 19 وهي متأثرة جداً بمدرسة أورشليم. وأبرز ما تركت المدرسة الأورشليمية محفوظ اليوم في كنيسة رقاد السيدة العذراء، حيث لا يمكن للداخل إليها إلا ان يسجد للخالق وأن يحمده على جميع عطاياه للبشر…. وهناك أيقونات أخرى اشتراها الدير وأخرى أوقفت إليه يأتي بعضها من روسيا وهي ترجع إلى نهاية القرن 19.

وإلى جانب حفاظه على الفنّ المقدس المشرقي العريق، يحافظ الدير أيضاً على مخطوطات قديمة، ما يجعل منه ذاكرة مسيحيي الشرق، ففي البلمند 170 مخطوطة تشكل كنزاً روحيا وثقافيا في التراث الأرثوذكسي الإنطاكي، إذ إنها تبرز ناحية هامة من الحياة الرهبانية والرعائية السائدة آنذاك. وتعود هذه المخطوطات إلى القرن 17 والقرن 19 بمعظمها، أما تلك الأقدم فتعود إلى ما بين القرنين 12 و15 فتحتوي  كتابات متقابلة بالسريانية والعربية. وكان في الدير أناجيل مصورة تعود إلى نهاية القرن 17، إلا أنها سرقت منه سنة 1976 من الدير ولم يتمكن أحد حتى اليوم من استرجاعها”.

وهنا، لفت الأب ديميتريوس إلى أن دير البلمند تضرر كثيراً خلال الحرب اللبنانية ولم يتضرر خلال فترة الحكم العثماني على عكس معظم أديرة الشمال اللبناني، إلا أنه اليوم بأفضل حال “والفضل يعود بذلك إلى البطريرك اغناطيوس”.

هندسة لاتينية وإنشاءات أرثوذكسية متجانستان

balamand4ورغم الضرر الّذي أصابه في الحرب، فإن هندسة الدير الأساس لم تلحظ تغيرات كثيرة، بل تمت إضافة أجزاء عليه وقاعات متعددة الإستعمالات.

فمخطط الدير يشبه كل مخططات الأديرة السسترسية حيث الأبنية تنتظم حول رواق يشكل مركزاً للحياة الرهبانية. ويمثل هذا الرواق المربع جهات العالم والإنجيليين الأربعة… ولكن لم يبق منه إلا ممشيان.
وفي الجانب الشمالي من الرواق، تقع كنيسة رقاد السيدة العذراء، وتتجلى فيها الرصانة السسترسية، وهي كنيسة واسعة، فيها إيكونوستاز مصنوع على اليد.

وأبرز ما يميّز دير البلمند الجرسية أو قبة الجرس، لأنها الوحيدة من نوعها في الشرق كله. وتكمن فرادتها بالعقد المنضد والقبة التي تغطيه، بالإضافة إلى كونها الوحيدة التي لم ترمم، ويبلغ علوها 6.5 أمتار.

وفي الدير أيضاً كنيسة القديس جاورجيوس التي كانت في السابق معروفة بالقاعة المجمعية، وهي القاعة التي كان يجتمع فيها الرهبان لقراءة فصول في نظام رهبانيتهم. هذا بالإضافة إلى قاعات متعددة الإستخدامات، وغرف صغيرة كانت تستخدم للرهبان وأصبح يستخدمها من يقصد الدير للقيام برياضات روحية أو بمخيمات صيفية.

balamand5

وقد عمل الأرثوذكس على إنشاءات عدة في الدير، وهي حديثة نسبياً وتشكل نوعاً من التكامل مع الأبنية السسترسية إن على مستوى مواد البناء المستعملة أو على مستوى الأحجام المزادة.

وتجدر الإشارة إلى أنه “يمكننا تمييز ثلاثة مجموعات تعود إلى حقب تاريخية مختلفة وتعتمد أساليب هندسية متنوعة في الدير:

أولاً، الجناح الحلبي: بني عام 1652، وهو يقع في الطابق الأول ويتكون من قاعة كبيرة فيها 8 غرف.
ثانياً، الجناح البطريركي: بني عام 1712. استعمل كمدرسة إكليريكية من سنة 1833 حتى سنة 1842.
ثالثاً، المدرسة (من القرن 19 إلى القرن 20): آخر قسم أضيف إلى الدير في القرن 19 والذي يحتل الجهة الجنوبية الغربية، ويقع في الطابق الأول.
ورجح الأب ديميتريوس أن تكون الكنيسة مبنية على أنقاض كنيسة بيزنطية من الأساس لأنه تم العثور على قبر روماني، وغالباً ما كانت تبنى الكنائس البيزنطية على أنقاض معابد رومانية قديمة.
 
إنه دير أقل ما يقال فيه أنه حافظٌ للتاريخ من خلال أيقوناته ومخطوطاته وهندسته وبان للمستقبل من خلال مدرسته ومعهده وجامعته… إنه فعلاً ما يزيد هذه “التلة الجميلة” جمالاً، وما يجعل من أفقها رابطاً بين السماء والأرض.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share