أيهما أهمّ العلمنة أم الإيمان؟ أم الثاني يتبع الأول؟
مقدمة
هذا السؤال ينطلق، كما يبدو لي، من افتراض يتبنّاه صاحبه دونما نقد أو تمحيص، ألا وهو أن الإيمان والعلمنة أمران متناقضان لا محالة. من هنا التساؤل – الذي قد لا يكون بريئاً إذا علمنا أنه موجّه إلى جماعة تتخذ من الإيمان ملهماً لحياتها – عن المفاضلة بين الواحد أو الأخرى.
والحال أن إيضاح المفهوم الصحيح للعلمنة يسمح لنا أن ندرك، أولاً، أنّها، إذا أُخذت بهذا المفهوم، لا تتعارض إطلاقا مع الإيمان، وثانياً، أنها، على العكس، في تجانس ملفت مع متطلباته، اللّهم إذا قصدنا بالإيمان ذلك الذي يدعو إليه إنجيل يسوع المسيح.
وهكذا يكون جوهر إجابتنا عن هذا السؤال، أن نطرحه بشكل أفضل يعطي لعباراته مدلولها الصحيح. وقد قال أحد كبار علماء النفس المعاصرين بهذا الصدد:
“كثيراً ما يكون الجواب عبارة ليس إلاّ عن نمط أفضل في طرح السؤال”(1)
أولاً: المفهوم الصحيح للعلمنة
1- ليست العلمنة، كما قد يشاع، موقفاً مناهضاً للدين. ذلك أن الدولة التي تتبنى موقفاً من هذا النوع وتجعل منه صفة مميزة لنظامها ولنمط الحكم فيها، ليست بحال من الأحوال دولة علمانية بالمعنى الصحيح – وإن ادَّعت ذلك وجاهرت به – بل دولة “دينية” بمعنى من المعاني، ولو اتخذت الإلحاد مذهباً تدين به. فكل رؤية ماورائية للكون (أي كل رؤية تتجاوز الظواهر التجريبية – تذهب إلى ما ورائها – لتتناول طبيعة الموجودات الجوهرية وكنهها العميق وتفسيرها النهائي ومعناها الأخير)، هذه الرؤية إنما هي “دين” بمعنى من المعاني، تأليهية كانت أو إلحادية. فالموقف الرفضي من الدين هو أيضاً، على طريقته، نوع من الدين. لذا فإن الدول الشيوعية التي تتبنّى الإلحاد مذهباً رسمياً لها وتدعو له بشتى الوسائل في كافة مرافق الحياة العامة(2)، ليست علمانية بالمعنى الصحيح.
2- أما العلمنة الحقة، فهي موقف تمتنع فيه الدولة، من حيث هي دولة (أما موقف الأفراد الذين يضطلعون بالحكم فيها، فهو أمر آخر بالكلية)، عن التزام معتقدات أي دين من الأديان أو أية فلسفة من الفلسفات، تاركة هذه المعتقدات لضمير كل مواطن وقناعته الشخصية. لذا فإنها تمتنع عن ممارسة سلطتها لفرض أي موقف دينيّ أو فلسفيّ أو لنشره أو، بالعكس، لمكافحته. وقد كتب الدكتور أديب صعب بهذا الصدد:
“هذه (العلمنة) لا تأخذ أي موقف عقائدي، بل تبقى حيادية من حيث العقيدة، وتحاول تأمين الحرية والمساواة والعدالة للجميع، ولا تتدخّل في عقائد الأفراد وممارساتهم إلا حين تشكّل هذه العقائد والممارسات خطراً على المصلحة العامة”(3).
3 – هذا لا يعني بالضرورة إقصاء الدين عن المجال العام وعن حياة الأمة وتوجهاتها ومؤسساتها. فالدولة، على قدر تماسّها بالشعب وتعبيرها عن إرادته (وهذا هو جوهر الدول الديموقراطية)، لا بدّ لها وأن تستلهم تراث هذا الشعب، بما فيه دينه أو أديانه، وأن تستوحي منه أهدافها وتطلعاتها وروح شرائعها ونهجها التربويّ ومفهومها لكافة المجالات الحيوية كالعمل والزواج والأسرة والملكية… ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن هناك مفاهيم مختلفة للعلمانية.
* منها مفهوم سلبيّ ينـزع إلى تقليص الدين عن المجال العام لحصره ضمن الجماعات الدينية (وإن فُتحت لهذه الجماعات نوافذ على المؤسسات العامة، كأن تعطى مثلاً برامج إذاعية أو تلفزيونية، أو يسمح لها بأن تؤمّن تعليماً دينياً بمبادرتها الخاصة في إطار المدارس الرسمية…) وقد تكون الجماعات الدينية في هذه الحال قوية، معزّزة، مكرّمة، في حين أن الجو العام للمجتمع قد يكون غريباً بالكلية عن القيم التي تدين بها تلك الجماعات، كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً حيث القيم السائدة في المجتمع هي قيم التنافس على الكسب والنفوذ، وهي بالتالي على نقيض القيم التي تجاهر بها الجماعات الدينية – وبنوع خاص على نقيض القيم الانجيلية – ولكنها تنعكس حكماً على أفراد هذه الجماعات(4).
* ومنها مفهوم إيجابيّ، تتعامل بموجبه الدولة مع الأديان تعاملاً أكثر انفتاحاً وترحيباً. فمثلاً، عوض عن أن يمتنع التعليم الرسمي، من حيث هو، عن إعطاء أية ثقافة دينية (وهو تجاهل ليس بالفعل حيادياً كما قد يبدو لأول وهلة، لأن إهمال مادة كالدين من برنامج التعليم يوحي بحدّ ذاته بأنها مادة ثانوية يمكن الاستغناء عنها(5))، يسعى، بالعكس، إلى إفساح المجال أمام جميع العائلات الروحية المتواجدة في البلد، للتعبير عن تراثها أمام جميع الطلاب في إطار المؤسسات التعليمية الحكومية، وذلك عن طريق العرض الموضوعيّ الذي لا يرمي إلى الدعوة بل إلى التعريف، والتثقيف. هذا ما يطالب به عدد من العلمانيين الفرنسيين مثلاً، في بلدهم الذي تتخذ فيه العلمنة طابعاً أقرب إلى السلبية (وإن كانت هذه السلبية قد تناقصت في الحقبة الأخيرة) بفعل عوامل تاريخية (أهمها الصراع التاريخي المؤسف بين المؤسسة الكنسية والحركة الديمقراطية). ويطالب اللاهوتي الأرثوذكسي الفرنسي – والمؤرخ – أوليفيه كليمان، بنفس الخط، في مقال حديث صدر له، أن يُعتمد في التعليم الرسمي كما في التعليم الخاص، تدريس تاريخ فرنسا بجملته، أي ليس فقط تاريخ الأفكار التحررية والثورة الانسانوية، بل التاريخ المسيحي أيضاً، بنواحيه، لا السلبية وحسب، بل الايجابية، كذلك، المتجسدة بما أبدعه من منجزات الرأفة والعدالة والجمال(6).
ويدعو الفيلسوف الأرثوذكسي اللبناني أديب صعب، في كتاب صدر له حديثاً وسبق أن عدنا إليه في هذا الحديث، إلى اعتماد نظام علماني لا يتجاهل الدين في مناهجه التربوية، بل يعتمد في هذه المناهج تعليماً موضوعياً عن الأديان يتلقاه جميع التلامذة في إطار مادة تدعى “تاريخ الأديان”. يقول:
” إننا نعلّم (تحت مادة الدين) الأديان الموجودة في مجتمعنا والأديان الكبرى في العالم. فلا بدّ، لكل تلميذ في لبنان، من دراسة المسيحية والإسلام وما يتفرع منهما، في المقام الأول، ومن دراسة ديانات عالمية كاليهودية والبوذية والهندوكية في المقام الثاني. ويجب أن تكون هذه الدراسة موضوعية أو وصفية، وتتناول الأديان من حيث هي مؤسسات وعقائد وطقوس”(7). وقد نكون محتاجين جداً إلى أمر كهذا في بلد يسوده التجاهل والتناحر بين الطوائف.
*********
ثانياً: العلمنة بهذا المفهوم لا تتعارض مع الإيمان
العلمنة، إذا أُخذت على هذا المحمل، لا تتعارض مع الإيمان :
1 – فالمؤمن، في ظلها، يستطيع أن يمارس إيمانه دون عائق، لا من حيث ممارسة الشعائر الدينية وحسب، بل من حيث الفرص المفتوحة أمامه لتغذية إيمانه، والعمل على نشره، والتعبير عنه بالكتاب والصحف والمجلات ووسائل الإعلام السمعية والبصريّة والاجتماعات والمؤتمرات، والمؤسسات الخيرية والاجتماعية، كما أنه يستطيع أن يعتمد جميع وسائل التربية الدينية الكفيلة بنقل الإيمان للناشئة، من تعليم ديني ومدارس أحدية ومنظمات شبابية وما شابه ذلك.
2 – لا بل يستطيع المؤمن، في هذا الإطار، أن يعارض الدولة إذا ما رأى أن بعض تشريعاتها أو مواقفها تتناقض مع متطلبات إيمانه. فإن له عند ذاك أن يتكتّل مع غيره من المؤمنين وأن يعتمد وسائل المعارضة الديمقراطية من إيجاد تيار معارض في الرأي العام يعبّر عن نفسه بالاجتماعات والمظاهرات السلمية وبكافة وسائل الإعلام ويمارس الضغط على الحكومة والسلطة التشريعية من أجل إحقاق مطالبه. وهو أمر ممكن لأن الدولة، في النظام العلماني الديمقراطي، إنما تتوجه وفق إرادة الشعب، لا بموجب إيديولوجية محددة مسبقاً.
* هكذا، وبمناسبة الذكرى المئوية الثانية لاستقلال الولايات المتحدة، تصدى عدد من المسيحيين الأميركيين، بوحي من إيمانهم، لروحية توجهات بلدهم، المطبوعة، برأيهم ، بالأنانية القومية، والبعيدة، بالتالي، عن متطلبات الإيمان الصحيح(8).
* كذلك نرى المطارنة الكاثوليك، في الولايات المتحدة، يعارضون بشدة، باسم إنجيل السلام، سياسة التسلح التي تعتمدها إدارة الرئيس ريغان.
* وفي سويسرا، وهي بلد غني يدين معظم سكانه بالمسيحية ولكنه متخلف جداً من حيث حجم مساعداته للعالم الثالث، تحركت منظمتان مسيحيتان، إحداهما كاثوليكية والأخرى بروتستنتية، بالتعاون مع منظمتين أخريين، للضغط على الحكومة الفدرالية كي تزيد حجم مساعدتها لعملية التنمية في البلاد المتخلفة، فتوصلت بفعل هذا التحرك إلى جمع 200.000 توقيع على عريضة بهذا الصدد كان لها تأثير مباشر في حمل الدولة على زيادة حجم معونتها(9).
*********
ثالثاً: لا بل العلمنة تتفق، بنظري، مع الإيمان، أكثر مما يتفق معه النظام الطائفيّ أو الدولة الدينية.
بل أن القضية تتعدى، برأيي، مجرد نفي التعارض، إلى تأكيد انسجام عميق بين شروط العلمنة الصحيحة ومتطلبات الإيمان، إذ أن الأولى توفر للثاني مناخاً أكثر ملائمة لحيويته ونقاوته من ذلك الذي يوفره النظام الطائفيّ:
1 – لأن النظام الطائفي (على الطريقة اللبنانية) أو الدولة الدينية، لا يقيمان وزناً للحرية الشخصية، تلك الحرية التي لا إيمان حقيقي بدونها. فالإنسان محسوب فيهما على الطائفة الدينية التي يولد فيها، وتُفرض عليه، بالتالي، مراسمها وأحكامها، من حيث التربية والزواج والطلاق والميراث و… الدفن، دون أن يُحسَب حساب لمواقفه وقناعاته الشخصية، مما يفرز نوعاً من التدين السطحي ويغذي الرياء ويشجع النزعة الانتهازية التي تتخذ من التدين الظاهريّ ذريعة لبلوغ المآرب(10). لقد كتب المفكر الفرنسي مونتسكيو هذه الجملة المأثورة:
“بوسع السماء وحدها أن تنشئ الأتقياء، أما الحكام فإنهم ينشئون المنافقين”(11).
أما العلمنة، فتنشئ مناخاً من الحرية يستقيم فيه الإيمان، لأنه لا يتأتى عند ذاك عن مصلحة أو اضطرار ولكنه يُبنى على القناعة والإخلاص.
2 – لأن العلمنة تحرّر الدين والمجتمع من تجربة السلطوية والهيمنة التي لا تتورع أن تتخذ من الله نفسه – في ظل النظام الطائفي – ذريعة لإشباع شهوة الحكم لدى الأفراد والجماعات. الإنجيل يميّز بين الله وقيصر، لا ليجعل من مجال قيصر مجالاً مستقلاً عن الله (“فللرب الأرض بكمالها، المسكونة وكل الساكنين فيها”، كما تنشد المزامير)، بل لكي لا يُزجَّ الله نفسه (وهو الحرّ الذي يتعامل مع أحرار صنعهم على شبهه) في منطق قيصر، الذي هو حكماً منطق الإكراه؛ لئلا يتحول حكم الله إلى صورة مضخَّمة عن حكم قيصر، لئلا يُمسَخَ الله إلى صورة قيصر إلهي يحكم بالسيف والإرهاب، فيمنح لأتباعه ذريعة لكي يحكموا على هذا المنوال (لأنك إنما تكون على صورة الإله الذي له تتعبد).
إن الدولة الدينية خير إطار لإذكاء النـزعة لدى المتدينين (الذين إن هم إلا بشر تحت الضعف، قبل كل شيء، وإن كانوا سرعان ما يتناسون ذلك) إلى اتخاذ الله مبرراً لإشباع هوى التسلط عندهم، هذا الهوى الذي هو على نقيض مقتضيات الإيمان الإنجيلي (فدعاهم يسوع وقال لهم: تعلمون أن الذين يُعَدّون رؤساء الأمم يسودونها، وأن أكابرها يتسلطون عليها. فلا يكن هذا فيكم …”(12) ). التسلط يبَّرر عند ذاك باسم الله ويعتبر تعبيراً عن “حكم الله” في الأرض. هكذا تصبح الدولة الدينية خير مجال لإجهاض الديمقراطية عن طريق إسكات كل معارضة، بحجة أن معارضة خط الحكم ونهجه إنما هي معارضة لحكم الله، تجعل من يسلك فيها في مصف “أعداء الله” الذين لا تجوز الرأفة في معاملتهم. كما أن الدولة الدينية هي، من هذا القبيل، خير أرضية للحكم على المجتمع بالجمود والسلفية، بحجة أن كل مطالبة بالتجديد إنما هي خروج على أوامر الله التي لا تتحول. إن تلك المخازي، وما أكثرها في تاريخ الدول الدينية على اختلاف مذاهبها، لخير مؤشر على طبيعتها المنحرفة عن الإيمان الأصيل، وذلك رغم كلّ التبريرات التي أعطيت وتُعطى لدعم هذا النمط من الحكم. ألم يقل الإنجيل: “من ثمارهم تعرفونهم”؟
أما العلمنة فإنها، بفصلها الدين عن الدولة، تجرد الحكم من كل هالة قدسية وتسمح، بالتالي، بالتصدي له ومعارضته إذا كانت في تلك المعارضة مصلحة للأمة، وبذلك تضطره إلى أن يحاسب نفسه ويصلح أعماله باستمرار لئلا يتعرّض لمحاسبة وانتقاد لا تحميه منهما أية تغطية إلهية. كما أن العلمنة، بتمييزها السياسة عن الدين (دون أن ينفي ذلك استلهام تلك لهذا)، تنزع صفة الإطلاق عن أي رأي سياسي، موالياً كان أو معارضاً، مما يفسح المجال أمام التنافس الحرّ بين الآراء ويسمح لأفضلها أن يُثبت، عبر هذا الصراع، قيمته وجدارته.
3 – لأن العلمنة تسمح بصهر المواطنين في مجتمع واحد يتساوون فيه كلهم بالحقوق والواجبات والكرامة، فيحققون باتحادهم هذا صورة لملكوت الله الذي يجتمع فيه “أبناء الله المتفرقون إلى واحد” (يوحنا 11: 52)، ويبنون معاً وطناً قوياً يصمد بوحدته أمام المحن والدسائس والمؤامرات، ويعمل مواطنوه بيد واحدة على نموه وازدهاره ومواجهة مشاكله بتآزر الجهود المخلصة وتكامل المواهب. في حين أن الدولة الدينية تجعل من الأقليات كيانات هامشية في نفس وطنها وعقر دارها، وتضعف بالتالي ولاءَها لهذا الوطن. كما أن النظام الطائفي، من جهته، يجعل من الجماعات الطائفية كيانات فئوية متقوقعة تتناهش الوطن لإشباع مطامعها الذاتية، وينشئ التفاوت بين المواطنين – وبالتالي يضعف الترابط في ما بينهم ويؤثر على مدى شعورهم بالانتماء إلى وطن واحد – لأن قيمة كلّ منهم، في ظل ذلك النظام، ترتبط لا بمواهبه وكفاءاته وجهوده وإخلاصه بل بمنزلة الطائفة التي ينتمي إليها.
مجمل الكلام أنه، إذا كان الإيمان الحق لا يستقيم إلا بإحقاق حرية الإنسان وكرامته، وإقامة الوحدة والتساوي والتعاون بين البشر “عيال الله”، فإن العلمنة تنسجم مع متطلبات الإيمان هذه أكثر مما تتفق معها شروط النظام الطائفي الذي لا يقيم وزناً لحرية الإنسان وينتقص من كرامته ويصدّع الوحدة بين البشر.
11/9/1986
ك.ب.
مجلة “النور”، العدد 8، 1986