كلمة منسّق اللقاء الرعائي الأرثوذكسي نيقولا لوقا

mjoa Monday October 1, 2012 80

الآباء والإخوة الأحباء،

في رسالته الى أهل رومية يقول بولس الرسول:    “هكذا نحن في كثرتنا جسد واحد في المسيح،
                                                              وكلنـا أعضـاء بعضنـا لبعـضٍ،
                                                              ولنا مواهب تختلف بإختلاف ما نلنا من النعمة “(رومية 12: 5-6)


أيها الأحبّة،

تمتاز كنيستنا الأرثوذكسية الجامعة المقدسة الرسولية بأمانتها الكبرى للتعليم الرسولي، وبحفظها الإيمان القويم وتمسكها بالعقيدة، رغم كل الويلات والشرور، مع ما استتبع ويستتبع ذلك من رفض للمساومات والتسويات التي يمكن أن تمسّ إستقامة الرأي.

ومن منطلق أمانتها هذه للإيمان المسلّم مرة واحدة للقديسين (يهوذا 3)، رفضت الأرثوذكسية أنظمة الآحادية والفردية (يحضرني هنا قول لقبريانوس أسقف قرطاج؛ الذي استشهد في ١٤ أيلول عام ٢٥٨، في حديثه للشيوخ: “لقد عاهدت نفسي منذ بدء اسقفيّتي ألاّ أقرّر شيئا من دون مشورتكم  ودون اجماع الشعب”(، وكذلك رفضت القول بتجزئة الكنيسة إلى كنيسة معلمة تضمّ الإكليروس وكنيسة متعلمة يؤلّفها المؤمنون من غير الإكليروس، بل كرّست المجمعية والشركوية، إذ أنّ لا تجزئة في جسد المسيح، أي في كنيسته، حيث المؤمنين جميعاً، من كهنة وعلمانيين، يؤلفون هذا الجسد غير المنقسم (1 كور 12: 27) والكهنوت الملوكي ( 1 بطرس 2: 9) وشعب اللـه (عب 10: 20). فالكنيسة الواحدة وغير المنقسمة هي الكل.

بالرغم من صراحة التعليم، ووضوح النصوص، بقي موضوع مشاركة المؤمنين في حياة كنيستهم أمراً غير محقق إلى اليوم في كنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية ما سمح بأن تتنامى فيها الروح الفرديـة وتتحكّم فيها المزاجيّات الشخصية وأن تخضع لما أفرزه هذا الواقع من تداعيات سلبية على حياتها بوجوهها كافةً.

لذلك فإنّ هذا الواقع المؤلم، المتعارض مع طبيعة الكنيسة ولاهوتها ودورها، يبقى حالة شاذّة طارئة تستدعي المعالجة أياً كانت الأسباب والظروف والملابسات التي نشأ في ظلّها. وهو يستدعي من جميع أبناء الكنيسة، الملتزمين بحبّ يسوع المسيح، والمؤمنين بالكنيسة الشركوية المواهبية، المُشعّة، والمشرقة، العمل الحثيث والتعاون والتواصل فيما بينهم، على امتداد المدى الآنطاكي، لوضع مشروع مشاركة المؤمنين في حياة كنيستهم، الذي نصّت عليه القوانين المقرّة من قبل المجمع الأنطاكي، موضع  تنفيذ كامل في كلّ الأبرشيّات.

هذا علماً أنّ موضوع تحقيق المشاركة في حياة الكنيسة وتعزيزها لا يُطرح بدءاً من اليوم، بل إنّه سعي قديم وهدف تلازمَ مع إنطلاق المسيرة النهضوية في كنيستنا، وترافق مع كل المحطات والتحولات في تاريخها وتاريخ كرسينا الانطاكيّ الحديث.

ففي عهد المثلث الرحمات البطريرك الكبير الياس الرابع، قاد الأبوان الارشمندريتان (آنذاك) أغناطيوس (هزيم) وجورج (خضر)، مع مجموعة من النهضويين الشباب الذين اعتلى بعضهم لاحقًا رئاسة الكهنوت، صراعًا مريرًا مع الذين كانوا يريدون الابقاء على القوانين الطائفيّة القديمة التي كانت تدعو، من جُملة ما تدعو، إلى التجزئة والفصل في قيادة الكنيسة بين من يهتمّ بالروحيات (أيّ المجمع والاكليريكيين) وبين من يهتمّ بالماديات (أيّ العلمانيين).

وقد أثمر هذا الصراع، مع ما رافقه من اقتراحات، إلى إصدار المجمع المقدس نظام المجالس الرعائية والأبرشيات سنة 1973 أملاً في تحقيق مشاركة أفضل في الحياة الكنيسة وتأسيس خبرة متنامية في هذا المجال، وصولاً إلى تعبير أكثر فعالية وأوسع افقاً عن تعاضد أبناء الكنيسة وتناغمهم في الشهادة والخدمة. وخير ما يعبّر عن آفاق هذا النظام ومرجوّاته هو ما كتبه الأخ الدكتور كوستي بندلي في الكتيّب الذي صدر حينها بعنوان: “مجالس الرعايا ومتطلّبات النهضة الانطاكية”.

 غير أنّ، وبالرغم من الجهد الذي قام به الحركيّون خصوصاً، لشرح هذا النظام للمؤمنين والدعوة إلى تطبيقه من خلال اجتماعات وسهرات رعائية دعوا إليها، فإنّ هذا النظام الرعائي لم يوضع موضع التطبيق سوى بشكل جزئي، وفي بعض الرعايا فقط، ما أفقده روحيّته وفاعليّته وآفاقه الوحدوية والانطاكية العامّة. ولم يُصر، حتّى تاريخه، إلى إجراء عملية تقييم جدّي وعلمي لتحديد العوائق التي منعت تطبيقه في حال وجدت. علماً أن السبب الرئيسيّ لعدم تطبيقه، في منظارنا، هو رغبة أكثر المطارنة في التفرّد والاستئثار بقيادة حياة الكنيسة دون مشاركة أحد من المؤمنين.

ولأن غياب المشاركة في حياة الكنيسة أدّى إلى إلحاق أفدح الأضرار بالحياة الكنسية، وساهم في الحدّ من فعالية الدور الكنسي وشهادته في المجالات الروحية والرعائية والتربوية والإجتماعية والتعليمية وفي إبعاد شرائح كبيرة من الشعب الإرثوذكسي عن الحياة الكنسية. بقي هذا الهاجس يشغل حركة الشبيبة الأرثوذكسية التي بادرت منذ سنوات، بالتنسيق مع مجموعة من مؤمنين يشغلهم هذا الهاجس أيضاً، الى تأسيس اللقاء الرعائي الإرثوذكسي الذي أتحدّث باسمه أمامكم اليوم.

لقد بادر اللقاء الرعائي منذ تأسيسه الى وضع خطّة عمل رعائية اعلامية تثقيفية تدفع باتجاه تنفيذ القوانين الرعائية. والتقى غبطة البطريرك ومعظم السادة المطارنة، ووجّه إليهم رسائل عدّة للدفع بهذا الاتّجاه مُنبّهاً فيها من خطورة استمرار الواقع الرعائي الحالي على استقامة الحياة الكنسية ووحدتها آخذاً بعين الاعتبار ما بدأ يظهر، في ظلّ الضعف والفراغ الرعائي القائم، من هيئات، اتخّذت لها إسم الارثوذكسية، تطالب بحقوق الارثوذكسيين في الكنيسة والمجتمع.  غير أنّه، وللأسف الشديد، لم نتلقّ أي ردّ ولم نلحظ أيّ تجاوب فعلي مع ما نروم إليه من تنفيذ لقوانين رعائية مقرّةً أصلاً من السادة الرعاة. لا بل فوجئنا أكثر من مرّة، ترافقاً مع إهمال التفاعل مع طروحاتنا وتوجّهاتنا الكنسية، أنّ غبطة البطريرك أجاب على رسائل تلّقاها المجمع الانطاكي الأخير من هيئات أخرى تتعاطى شؤون الطائفة الإرثوذكسية في لبنان.

أيها الأخوة، في هذا السياق أتى مشروع تأسيس “الهيئة المدنية العامّة للروم الارثوذكس في لبنان”، الذي نلتقي اليوم تأكيداً على خطورته. وإذ بيّنـا لكم، في النصّ المرفق بالدعوة الى هذا اللقاء، وفي رسالة أمين عام الحركـة الى الحركيين، الأخطار الكبيرة على كنيستنا الناتجة عنه، نُعيد التذكيـر ببعضها:

•    أنّه يعيدنا الى زمن ما قبل النهضة الانطاكية، زمن الجهل والانحطاط والتجزئة والفصل الخطير، بين الشؤون الروحية والشؤون الزمنية الأمر الذي انتفى في سر التجسد الإلهي.
•     بفصله بين أبرشيات الكرسي الانطاكيّ في سوريا ولبنان. إنّه يوحي بخطـر على وحدة هذا الكرسي وسلامـة العلاقـة بين أبرشياته القائمـة في سوريا ولبنان والانتشار.
•    يُشرّع بقرار مجمعي، ولوج كنيستنا الارثوذكسية في مسار طائفي ضيّق.
•    أنّه يولي على المؤمنين من هو أرفع شاناً وموقعاً منهم بمنظار ،هذا الدهر، لا من هو أكثر محبّة وحضوراً وقرباً والتزاماً للربّ وكنيسته.
•     أنّه يُغيّب الانجيل وروحه عن كنيسة أنطاكيـة ويزعزع ثباتها في التعليم القويم.
•    أنّه يعرّض، وبشكل جدّي، إمكانيّة تنفيذ قانون مجالس الرعايا والأبرشيات والوصول إلى مؤتمر إرثوذكسي عام.

فأمام هذه الأخطار، خصوصاً منها، هذا الاستخفاف بأبناء الكنيسة “الصغار” الكبار في رؤية الانجيل،  ولأن ما تواجهه الكنيسة اليوم، وكذلك الظروف والمخاطر التي نعيشها على امتداد الرقعة الانطاكية، يستدعي التعاضد والتفكير والتخطيط والمواكبة والمتابعة بروح الجماعة المهتدية بالروح، وإبراز المواهب وتسخير الإمكانات لكل عضو من أعضاء الكنيسة، وأمانةً لتعليمنا الارثوذكسيّ، وأولاً وأخيراً وفاءً لفداء الربّ يسوع المسيح للكلّ، ندعوكم إلى رفع الصوت عالياً للإصرار على تطبيق القوانين الإنطاكيّة، لاسيّما قانون مجالس الرعايا والأبرشيّات، قبل تأسيس أية هيئة أخرى كالتي نحن في صددها، وإلى الالتزام بمواكبة ودعم خطوات اللقاء الرعائي الارثوذكسيّ وحركة الشبيبة الأرثوذكسية وسائر الهيئات والمؤمنين الهادفـة إلى تحقيق مشاركة المؤمنين الحقّة في حياة كنيستهم المُجسِّدة لطبيعة كنيستنا الشركويّة عبر تنفيذ قانون المجالس والأبرشيات.

أيها الأخوة، إننا، نُطالب غبطة البطريرك والسادة المطارنة باحترام القرارات المجمعيّة المُستلهَمة من الروح القدس وتنفيذ القوانين القائمة. كما ندعوهم إلى رفض إقرار أي نظام، أو إنشاء أية هيئة، كالهيئة المُقترحة، لا تنسجم مع تعليم الكنيسة  ولا تعبّر عن طبيعتها، محذّرين من أنّ الشعب المؤمن، المعبّر عن ضمير الكنيسة  والذي “يحفظ الايمان” سيرفض أيّ خطوة في هذا الاتّجاه، كما أيّ خطوة تقدم عليها الهيئة، مهما اقتضى الأمر من متابعة وجهاد.

ختاماً يحضرني ما تفوّه به، بنفحة نبوية، المطران جورج خضر يوماً في مقال الطائفية وقضيتنا الاجتماعية من كتابه “حديث الأحد” حيث قال : “يغشّ الانسان نفسه عندما يظنّ انه يقضي على العنعنات الطائفيّة بالتقاسم العادل في الغِنَم. كيف يجمع بين الحقّ والنهم؟ أليس الحقّ كلّه أن يأكل الجائع، كلّ جائع وأن نكسو العريـان ونعلّم الجاهل ونطبّب المريض”.

وأيضاً في كتابه الحركة ضياء ودعوة نقرأ : “نحن لا نحيا إلا لنرى هذه الكنيسة واعيةً رسالتها، منقذةً للناس، رافعـةً شأن المساكين”
والسلام.

اللقاء ألإرثوذكسي الإعلاميّ الموسّع
جبيل في 29/09/2012

منسّق اللقاء الرعائي الارثوذكسيّ
نقولا لوقا

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share