في النص الإنجيلي الذي يُقرأ هذا الأحد، والذي جرت أحداثُه على أبواب مدينة تدعى نائين، تحدث مقابلةٌ هامة. فمن جهة، موكب تشييع يحمل أفرادُه شاباً هو ابن لأرملة يُنقل للدّفن، ومن جهة ثانية، يلتقي هذا الموكب مع آخر هو موكب يسوع الذي كان سائراً مع صحبه وجمعه ومن يتبعه من الناس. إذاً موكبُ حياة يقابل موكبَ موت وسيّدُ الحياة يواجه أمامه الموت. هذا الذي يُفقدُ الإنسانَ كلَّ رجاء وكلَّ أمل وكلَّ فرح، يواجهُ من هو أملُ وحياةُ كلِّ إنسان وفرحُه. وفي مواجهة كهذه من هو يا ترى المنتصر؟
بحسب مفهومنا الشائع نقول: “النصر للأقوى”، وهنا، هو لذاك الذي وطئ الموت وحلّ أمخاله وأعاد إلى الحياة شاباً وحيدأ لأمه. وهو وحده –أي يسوع- له القدرة والسلطة الإلهية على أن يتلفّظ بتلك الجملة التي سمعناها في النص الإنجيلي: “أيها الشاب لك أقول قم”. هذه الجملة هي أمر موجّه من الحياة إلى الموت، هي دعوة من سيّد الحياة ومالكها نحو إنسان سيطر عليه الموتُ وساد.
بحسب اللاهوت المسيحي، يأتي الموت من سقوط الإنسان وتمرّده على الله، يأتي من الكبرياء وإظهار “الأنا” وسيطرتها على الإنسان بحيث يعتبر نفسه مركز الكون. و”الأنا” تبرز وتظهر بأشكال عدّة في الحياة ،كذلك كل إنسان سيواجه الموت في لحظة من اللحظات، فإمّا أن يستعدّ للحظة اللقاء ويتحضّر لها أو أن يبقى في خوف ورهبة من لحظة تنتهي فيها الحياة ونُحمل على الأكتاف لنتقدّم أناساً تبكي وتصرخ وفقاً للعادة.
الموت قبل المسيحية يصوّر دائماً على أنه شيء مخيف، الإنسان القديم يخاف أن يفكّر بالموت أو أن يواجهه وكان الإعتقاد أن حياة الإنسان تنتهي بالقبر، لذلك راح الإنسان يتفنّن بتخليد نفسه. أما كتابنا المقدس فلا يصوّر الموت على أنه مأساوي وإنما يُظهر هزيمتَه وانتصارَ المسيح عليه بالقيامة. الحياة والقيامة هما الموضوع الأساسي في نصوص العهد الجديد، والمسيحية هي ديانة حياة وقيامة، والمسيح هو إله أحياء وقياميين.
من يكون مع المسيح القائم ويكون المسيحُ حاضراً في حياته بشكل جوهري وعميق لا يهاب الموت ولا يخاف من مواجهته لأنه يفهم أن الحياة أعجوبةٌ من الله وتقدمةُ محبة وعطيةٌ أبدية لا يمكن أن يمحوها شيء.
حضورُ المسيح يملأ حياةَ المؤمن فيستنير كيانُه بنور المحبة الإلهية ويشعر برجاء القيامة عندها يكتسب قوةً في حياته تُشعره بالفرح، مصدر هذا الفرح هو توقٌ وشوق ورجاء بالحياة الأخرى الأبدية.
أن يتحنّن يسوع على أرملة نائين وأن يقترب إليها عندما يرى حزنَها وألمها وأن يتدخّل ويغيّر نظام الطبيعة بإقامة ميت من موته، ما هو إلا دليل على عطف الإله وحنوّه على جبلته واستعداده الدائم للتخفيف عنها. ونحن في وقت كَثُر فيه النّوحُ والبكاء وكثرت فيه الأراملُ ومواكب التشييع، نعلم علم اليقين أن موكبَ الحياة حاضرٌ وأن سيّد الحياة يراقب ويتألّم ويتحنّن. وهكذا يتعزّى كلُّ إنسان مؤمن عندما يقرأ قصة إقامة ابن أرملة نائين ويخرج الخوفُ من قلبه لأنه يعلم أن الله كائنٌ إلى جانبه وسائر في موكبه. فالمؤمن لا يهاب إلا نوعاً واحداً من الخوف هو الخوف الذي يصيب الإنسانَ المحب عندما يفكّر في فراق محبوبه، إنه خوف المحب الذي لايريد أن يتركه محبوبُه. المسيحي لا يخاف سوى من أن يتركه المسيح. البعض يخاف من فقدان المال أو الصحة أو الأقارب، وهذه كلّها صعبة، وإنما خوفنا الحقيقي هو ألّا يلتفت إلينا يسوعُنا، أن يتركنا يتامى لأننا ابتعدنا عنه، هذه هي المصيبة الكبرى.
جملة يسوع “أيها الشاب لك أقول قم” هي كلمات حياة ورجاء أراد يسوع أن ينقلهما إلينا، ومن بعدها لا حياتُنا حياة ولا موتُنا موت. فحياتنا هي حياة مع يسوع المسيح وبه لأنه هو الطريق والحق والحياة، وموتنا هو موت للخطيئة فينا واقتحام لملكوت السموات.
هذه المقابلة بين الموت والحياة حاصلةٌ حتماً في حياة كلٍّ منا، فلنستعدنّ لها ولنهيّء أنفسنا ونتسلّح بسلاح الحياة الذي هو يسوع المسيح الحاضر معنا، فهو وحدَه القادر أن يقول لنا وقتها: “أيها الشاب لك أقول قم” فنقوم معه –إن كان معنا- إلى حياة أبدية.