الأب فيلوثيوس زيرفاكوس هو من أبرز الآباء الشيوخ في اليونان في القرن العشرين وقد منّ عليه الرّب الإله بموهبة صنع العجائب. هو الابن الرّوحي للقدّيس نكتاريوس أسقف المدن الخمس. وهو مدرج على لائحة من سوف تُعلن قداستهم قريبًا.
ولد الأب فيلوثيوس في إحدى قرى البليوبونيز وأُعطي اسم قسطنطين. منذ نعومة أظافره أحسّ برغبةٍ لاتباع الحياة الملائكيّة خاصة بعد قراءته سير القدّيسين.
كبُر الصّبيّ، وكان يسترشد عند القدّيس نكتاريوس، فنصحه هذا الأخير بالالتحاق بدير لوفوغاردا، إلا أنّه أصر على الذهاب إلى الجبل المقدّس ليترّهب هناك. فجمع أغراضه وذهب مع صديق له اسمه نيقولاوس في سفينة متجهة إلى جبل آثوس. في الطريق توقفت السّفينة في تسالونيكية الّتي كانت تحت الحكم التركي. فقررا أن يذهبا ليسجدا عند ضريح القدّيس ديمتريوس وهو حامي النّاحيّة ورفاته تربض فيها. دخلا إلى فندق حيث استراحا إلى اليوم التّالي. في الصّباح توجها إلى المرفأ. وعند نقطة التفتيش، قبل دخولهما السّفينة المنطلقة إلى الجبل، لم يسمح لهما الحرّاس بالعبور قائلين: “لن تذهبا، أنتما جاسوسان!”. أنكرا بشدة وأرياهم أوراقهما الّتي وافقت عليها القنصليّة التركيّة والسّفارة، إلا أنّ الحرّاس لم يعيروهما أيّة أهميّة، بل وضعوهما تحت حرّاسة مشددة في الفندق دون إدخالهما السّجن. استمرّ الوضع على ما هو عليه بضعة أيام إلى أن بدأ القلق يتآكلهما خاصة أنّ المال في حوزتهما أخذ بالنفاذ. ثم إنّ قسطنطين قال لنقولاوس: “سأذهب إلى مقرّ الحاكم (أي الباشا) وسأكلّمه، وسوف يسمح لنا بالخروج بالتأكيد”.
استفاق قسطنطين باكرًا في صباح اليوم التّالي وذهب ليصلّي عند ضريح القدّيس ديميتريوس. وبدموع التوبة، طلب من القدّيس أن يتشفّع به لدى الرّب الإله لكي يسمح له بالذهاب إلى الجبل المقدّس. ثم أخذ يفتكر باستشهاد القدّيس ديمتريوس وكيف طُعن بالحراب ومات محبةً بالرّبّ يسوع المسيح وإيمانه به، وكيف مجّده الله على الأرض وفي السّماء وسوف يُمَجَّد دائمًا. عندما فكّر قسطنطين بهذا، شعر برغبةٍ جامحة في أن يقدّم نفسه ذبيحة على مذبح الرّب، وأخذ يطلب من القدّيس ديمتريوس لا أن يحرره بل أن يعينه على أن يكون شهيدًا للربّ يسوع. وإذ أخذ يفكّر في السّبيل إلى ذلك قال في نفسه: “سوف أذهب إلى بيت الحاكم، وهناك أقف بشجاعة أمام الأتراك وأُعطيهم سببًا ليسألوني عن إيماني، عندها أُظهرُ لهم هرطقتهم. سوف يطلبون مني أن أُنكر إيماني، ولكنّي سوف أَثبت وأفضِّل الموت. عندها أحصل على ميتة الشهادة”.
خرج قسطنطين مسرعًا إلى بيت الحاكم، هناك طلب أن يرى الباشا. فوجد نفسه أمام ممثّل الباشا الّذي طلب أن يُعلن له عن غرضه. فقال له قسطنطين: “بما أنّك ممثّل الباشا، قل لي إذن، لماذا لا تسمحون لنا بالذهاب إلى الجبل المقدس؟”
فأجابه: “لن أُعطيك سببًا.”
فقال له قسطنطين بشجاعة: “لستم أُناسًا جيّدين. أنتم ظالمون: لماذا تحتجزوننا وتحزنوننا؟ نحن لسنا على خطأ، ولسنا أشرارًا. حتّى أوراقنا كلّها قانونيّة وبحسب الترتيب. لست أفهم! الآن بدأت أموالنا تنفذ. كيف لنا أن نعيش في مكان غريب لا نعرفه؟ هل سيعجبك إن أنت ذهبت إلى اليونان ولاقيت المعاملة نفسها؟”
هذه الكلمات أثارت سخط ممثل الباشا الّذي أخذ يدق الجرس بعصبيّة حتّى تجمّع حولهما، بلحظة، أكثر من ثلاثين جنديًا. فطلب منهم الممثّل أن يأخذوه إلى البرج الأبيض. لم يعرف قسطنطين ما الهدف من أخذه إلى هناك. اعتقد أنهم ربّما يريدون سجنه، ولم يخف من الفكرة مطلقًا. إلا أنّه شعر بالأسى إذ لم يسأله أحدهم عن إيمانه. في الطريق صلّى للقدّيس ديمتريوس أن يمنحه ميتة الشهادة إذا كانت هذه مشيئة الله.
بعد أن ساروا بضعة أميال، أتى مسؤول وتكلّم معهم باللغة التركيّة. لم يفهم قسطنطين ما قيل لكنّه أدرك أنّ المسؤول غاضبٌ إذ أخرج عصاه وضرب بها ممثّل الباشا. وعندما انصرف الجميع تقدّم منه المسؤول وهو يبتسم وربت على كتفه وسلّمه إلى جنديٍّ ودود من يوانينا وأمره أن يأخذه إلى السفينة اليونانيّة “ميكالي” الّتي كانت على المرفأ لكي يستطيع العودة إلى اليونان.
سأل قسطنطين الجندي من هو هذا الرّجل فقال له إنّه الباشا. فسأل لماذا ضرب ممثله، فأجاب: “لقد ضربه لأنه حكم عليك بالموت دون أخذ إذنه”. عندها سأله قسطنطين عن البرج الأبيض. فقال له الجندي: “كانوا يريدون قتلك هناك، فكلّ المحكوم عليهم بالموت يُؤخذون إلى البرج الأبيض، أما الباقون فيربطونهم بسلاسل ويتركونهم ليموتوا من الجوع والعطش والجو الموبوء.”
عندها تهلّل قسطنطين أنّه أفلت من أيديهم لا لأنه يخاف الموت بل لأنّه لم يرد أن يموت إذا لم يكن السبب إيمانه بالرّب يسوع المسيح.
ذهب قسطنطين مع الجندي إلى الفندق وجمع أغراضه ثم ودّع صديقه نيقولاوس وانطلق إلى السّفينة. وبعد جهد استطاع الإقلاع إلى اليونان لأنّ المفتشين هناك، لو لم يكن الأمر من الباشا، لكانوا احتجزوه مجددًا.
أحسّ قسطنطين بأنّها ليست مشيئة الله أن يذهب إلى الجبل المقدّس فانضم إلى دير لوفوغاردا. ومن هناك انتقل بعد سنتين في رحلة حجٍ إلى الجبل المقدّس، وكان قد اتخذ اسم فيلوثاوس.
لم يعرف الرّاهب فيلوثاوس لماذا أتى الباشا وأنقذه وسهّل خروجه إلا خلال هذه الرّحلة إذ التقى بصديقه نيقولاوس الّذي صار راهبًا في آثوس.
أخبره نيقولاوس أنّه، بعدما افترقا، كان جالسًا في مقهى الفندق تحت حراسة مشددة، وإذا به يلتقي أحد أصدقائه من الجمعيّة اليونانيّة-التركيّة الّتي رسمت الحدود بين اليونان وتركيا، وعندما وافق جميع الأعضاء على توقيع على القرار، ذهبوا إلى جزيرة كورفو ليحتفلوا بمعاهدة السّلام مدة أسبوع. هذا الشاب كان مرافقًا للباشا. فجلسا سوية وتكلّما. وعندما عرف مرافق الباشا حال نيقولاوس أمر لتوّه الجنود الّذين يحرسونه بمغادرة المكان، وأخذه إلى منزله حيث قام باستضافته ثم ذهب إلى الباشا ليلتمس لصديقه حريّة الذهاب إلى الجبل المقدس. هناك قال له الباشا إنّ صديقه نيقولاوس يستطيع الذهاب وإنّه سيرافقه إلى السّفينة ليقدم له كل مساعدة وحماية. ثم أضاف الباشا: “صديقك هذا كان يرافقه شابٌ آخر. وذات يوم صباحًا، كنت نائمًا نومًا عميقًا، وإذا بالقدّيس ديمتريوس يدخل إلى حجرتي لابسًا ثياب ضابطٍ وحاملاً سلاحه. وبنظرةٍ حادة أمرني قائلاً: ” قف فورًا، والبس ثيابك وحذاءك، واذهب إلى الطريق الفلاني في المدينة لتحرّر شابًا حُكم عليه بالموت من قبل سكرتيركَ الخاص. وبعد أن تحرّره خذه إلى السفينة “ميكالي” الواقفة عند شاطئ تسالونيكية فهي متوجهة إلى اليونان.”
أسرعت الخطى لأحرر الشاب كما أمرني القدّيس ديمتريوس وأرسلته إلى اليونان”.
لدى سماع فيلوثاوس القصة أدرك أنّ القدّيس ديمتريوس كان هو منقذه.
ثم لدى عودته من رحلة الحج إلى الجبل المقدّس أوقفته السلطات التركيّة مجددًا عند خروجه من السفينة ليسجد عند ضريح القدّيس ديمتريوس. ووجّهوا إليه تهمة التجسس ووضعوه في زنزانة. هناك كان شابٌ. فسأله الرّاهب: “لماذا حجزوهما؟”. فقال له الشاب:”لقتلنا!”. “ولكنْ أيّ شرٍ صنعنا؟”. فأجاب الشاب: “لا تُزعج نفسك وتسأل لماذا”.
بعد لحظات، حطّت سفينةٌ قادمةٌ من رومانيا عند شاطئ تسالونيكية وكانت تحمل عددًا كبيرًا من الرّكاب وبراميل نفط.
ولسبب مجهول، اشتعلت النّار في براميل النفط وأخذت تنتقل بسرعة إلى كلّ أنحاء السّفينة. وسُمع صوت دويٍّ قوي وتصاعدت ألسنة اللهب. استنفرت كلّ تسالونيكية وأتى ألاف الأشخاص إلى المرفأ، البعض للمشاهدة وآخرون للمساعدة، حتى حرّاس السّجن تركوا أماكنهم وأسرعوا لانقاذ الرّكاب العالقين في السّفينة.
في خضم هذه الجلبة، استغل الشاب الفرصة وأخرج من جيبه مقصًا قطّع به أسلاك السّجن الحديدية ثم أمسك بيد قسطنطين وأخرجه خارجًا. ثم دفع مالاً لأحد أصحاب القوارب ليأخذهما إلى سفينة يونانيّة قريبة من الشاطئ. في تلك اللحظة رآهما الجندي الّذي كان يحرسهما وأسرع ليوقفهما. إلا أنّ الشاب ضربه ودفعه إلى الوراء وجاز من أمامه.
أخذهما صاحب القارب إلى السّفينة اليونانيّة. وعلى متن السّفينة، ذهب الرّاهب فيلوثيوس لترتيب أموره، ثم عاد وبحث عن الشاب الّذي خلّصه ليشكره فلم يجده فسأل القبطان وكلّ ركاب السّفينة عنه، فأجابوه إنّهم لم يروا أحدًا بالمواصفات الّتي قدمها يدخل السّفينة أو يغادرها. لم يعلم أحد من كان هذا الشاب. إلا أنّ الأب فيلوثاوس، بعد سنوات عديدة وبعد تحرير تسالونيكية، كان يقيم الذبيحة الإلهيّة في كنيسة القدّيس ديمتريوس، فوقع نظره على إيقونة للقدّيس عينه تشبه كثيرًا الشاب الّذي خلّصه.
فبشفاعة القدّيس ديمتريوس أيّها الرّب يسوع المسيح ارحمنا وخلصنا آمين.