طبعات أخرى: جرّوس برسّ – الطبعة الثانية – 1998
فعن السؤال الأول أجيب إن هذا الكتاب أُدرج في سلسلة مخصصة للشباب لأن هاجس هذه السلسلة إنما هو الإجابة عن تساؤلاتهم، ولأن موضوع الكتاب الحاضر نبع بالضبط من سؤال طرحه أحد الشباب. كان ذلك سنة 1983 في إطار ما نسميه “ندوة الثلاثاء”، وهي ندوة تُحييها حركة الشبيبة الأرثوذكسية في طرابلس – الميناء (لبنان) مرة كل أسبوعين. فتتناول في كل مرة سؤالاً طرحه شاب أو فتاة، فيتناقش الحاضرون من الشباب حوله بإدارة مرشد الندوة الذي يلخص مداخلاتهم وينسق فيما بينها ثم يدلي بدوره بمساهمة موجزة يحاول من خلالها أن يسلط مزيداً من الضوء على مختلف جوانب الموضوع.
فمن بين الأسئلة التي وردت إلى الندوة المذكورة، كان السؤال التالي : “هل التعليم ضروري وواجب للفتاة”؟. وقد ارتأت اللجنة المشرفة على “ندوة الثلاثاء” أن يُعمد، قبل طرح هذا الموضوع كالمعتاد في أحد اجتماعات الندوة، إلى إجراء استقصاء حوله بين الشباب المنتسبين إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسية في طرابلس – الميناء، والذين منهم يتكون معظم جمهور الندوة. وقد أعتبر هذا الاستقصاء سبيلاً لتكوين صورة واضحة عن آراء هؤلاء الشباب وتصوراتهم في هذا الموضوع الحساس بمنتهى الحرية والصراحة دون أن يطلب منهم نصها في مطلع الكتاب، وُزّعت على عدد من شبان وشابات المجموعة المشار إليها أعلاه، ثم جُمعت الأجوبة التي بلغ عددها 62 جواباً وفُرزت وكانت حصيلتها موضوع عرض وتعليق في جلسة “لندوة الثلاثاء” عُقدت في 25/10/1983
إن طرح الموضوع من قبل أحد الشباب في إطار ندوة تتناول مختلف اهتماماتهم وهواجسهم، والإقبال الذي لمسناه في الإجابة عن الاستمارة التي وُضعت حول الموضوع، هما الأمران اللذان يبرران بنظرنا إدراج الكتاب الذي يتناوله في سلسلة “تساؤلات الشباب”. هذا بالإضافة إلى أن ركيزة الكتاب المذكور إنما هي الإجابات التي قدمها الشبان والشابات وضمنوها آراءهم ومواقفهم حول الموضوع الذي نحن بصدده. وما الكتاب، كما يشير عنوانه الثاني، سوى تعليق على أجوبة شبابية خُصص لعرضها مكان فسيح وأُثبت معظمها بحرفيته، بحيث يُتاح للقارئ أن يستمع، في هذا الكتاب، كما في ما سبقه من كتي السلسلة، لا إلى صوت المؤلف فحسب بل إلى أصوات الشباب التي ينطلق منها المؤلف متجاوباً ومتفاعلاً ومتحاوراً.
يبقى السؤال الثاني، وهو يتعلق بمدى الحاجة إلى إثارة موضوع كتعليم الفتاة يبدو محسوماً ومفروغاً منه، في عالم اليوم بشكل عام وفي بلدنا خاص. وعنه أجيب إن الموضوع، باعتقادي، لم يُحسم بالقدر الذي قد نتصوره. فقد يبدو إن ضرورة تعليم الفتاة أضحت من المسلمات على الصعيد النظري، إلا أن الممارسة تشير – كما سوف يتضح للقارئ عبر مطالعته لبعض الإحصاءات والوقائع التي أوردناها – إلى تفاوت، صارخ تارة ومتستر طوراً، بين الفرص المتاحة للأنثى في هذا المجال. ثم إن موضوع تعليم الفتاة لا يمكن عزله بحال من الأحوال عن مجمل قضية المرأة وعلاقتها بالرجل ودورها في الأسرة والمجتمع. هذه الخلفية حاولنا استكشافها من خلال الأجوبة التي قدمها الشباب لتبرير موقفهم من تعليم الفتاة. وقد اتضح لنا عبر تحليل هذه الأجوبة أن صورة المرأة لدى المجموعة الشبابية التي تناولها الاستقصاء – وهي مجموعة متقدمة بشكل واضح بالنسبة للمحيط فيما يختص بموقفها من تعليم الفتاة – إن هذه الصورة لا تزال متأرجحة بين عبء التقاليد الموروثة التي ترسم لكل من الجنسين دوراً محدداً جامداً يخدم في النهاية أغراض الرجال وبين نظرة تحررية تغيرية تتطلع إلى توزيع للأدوار يكون أكثر عدالة وإنصافاً. وقد رأينا في هذا التأرجح صورة عن الوضع المتأزم الذي تعيشه المرأة في العالم أجمع إذ يتصارع فيها وفي موقف المجتمع منها تيار التقليد والتغيير، ويتجاذبها دور موروث تراكمت العصور لتثبيته وترسيخه ودور جديد لم يتبلور كفاية بعد حتى في البلاد التي تدعي إنها سارت شوطاً بعيداً في “تحرير المرأة”. هذا ما يثبته العديد من الوقائع والأرقام التي حرصنا على جمعها وأثبتناها في صفحات هذا الكتاب.
هكذا ينطلق عملنا من عرض حصيلة استقصاء بين الشباب حول تعليم الفتاة ليتطرق، عبر تحليل مواقفهم وتصوراتهم، إلى طرح شامل لقضية المرأة كما هي مطروحة بحدة في عالم اليوم. هذا ولم نشأ أن نقتصر، في معالجة هذه القضية، على عرض لحاضر المرأة الملتبس المتأزم، بل شئنا أن نتبنى نظرة الشباب، المتوثبة بطبيعتها نحو الآتي، فتحدثنا عن “آفاق المرأة “متطلعين إلى مستقبل أفضل حري بأن يجاهد من أجله كل المخلصين، نساءً كانوا أو رجالاً، مستقبل يتحقق فيه للمرأة ملء كرامتها الإنسانية وكامل حجمها الإنساني، لا باللفظ وحسب – وما أبرع الإنسان في تسخيره، عن قصد أو غير قصد، من أجل التعمية والتمويه – ” بل بالعمل وحقاً “. إن ذلك التحول المرتجى أمر واجب وملحّ، لا إنصافاً للمرأة وحسب، بل لصالح الرجال أنفسهم الذين لن يبلغوا ملء قامتهم الإنسانية ولن يحققوا ما يصبون إليه من انتعاش ورضى إلا إذا نظروا إلى المرأة نظرة الند للند واعتبروها، لا أداة لأغراضهم، بل شريكة في مصيرهم، ولصالح المجتمع البشري برمته الذي هو بأمس الحاجة، لكي ينمو بشكل سليم متكامل متزن وينجو من تشنجاته وانحرافاته التي باتت تهدده بأفدح الأخطار، إلى إطلاق الطاقات المقيدة لنصفه النسائي وتوظيفها كما ونوعاً في عملية إصلاحه وإنقاذه.
طرابلس – الميناء، لبنان، كانون الثاني 1985
كوستي بندلي