كلمة الأستاذ ألبير لحّام رئيس مركز بيروت في العيد الرابع لحركة الشبيبة الأرثوذكسية الذي أقيم في مدرسة زهرة الإحسان في 17 آذار 1946:
منذ نيّف وعشرين سنة تحرجت أزمة الخطيئة التي كانت تمرّ بها الكنيسة في الشرق فطرحت ما نسميه المشكلة الأرثوذكسية “مشكلة الاصلاح الطائفي” وأخذ رجالنا من علماء ووجهاء وإداريين يبذلون جهوداً جبّارة للتخلّص من الانحطاط البادي في جميع نواحي الحياة الطائفية.
إن هذا النضال الأول في سبيل الحياة، حياة الأرثوذكسية في الشرق، وإن أخّر تقدّم الداء قليلاً إلا أنه لم يوفَّق إلى منع تسرّبه ولا الى استئصاله نهائياً.
وكان ذلك لأسباب عديدة ترجع في النهاية الى أن هذه المجهودات كانت تنظر الى المؤسسات والهيئات الطائفية ككل قائم بذاته، وكمجرّد هيئات ومؤسسات أرضية زمنية يمكن إصلاحها إدارياً بعرض سلسلة من المشاريع العمرانية وبضبط الأمور المالية.
ولكنه لم يخطر على بال أحد من القائمين بها أن البناء بحاجة إلى إصلاح كلّي شامل وأن الترقيع في جدرانه لا ينفع شيئاً وأن هذه الطريقة تقود الى تأجيل الانحطاط أكثر فأكثر لأنها وليدة ذلك الانحطاط بعينه إذ أنها لا تعير انتباهاً للعنصر الإلهي الذي يجب أن تستخدم المؤسسات لأجله ولا للعنصر الشخصي الذي لولاه لبقيت هذه المؤسسات مظاهر تعرض وحجارة تقوم لا تبدع ولا تتحرك.
وانطوَت هذه الصفحة الأولى من جهادنا الطائفي دون أن تحلّ أزمتنا.
ومنذ أربع سنوات، تمعّن بعض الشباب في درس المشكلة الأرثوذكسية فوجدوها تستند إلى عنصرَين رئيسيَّين، العنصر الأولي ديني إلهي هو هدف الحياة الأرثوذكسية وهدف المؤسسات والهيئات الطائفية. والثاني إنساني شخصي يدير هذه المؤسسات للوصول بالإنسان الى الحياة المسيحية. وبذلك توصّلوا الى أن الشخصية الإنسانية هي المركز الأساسي والعامل الرئيسي في الإصلاح الطائفي. فالشخصية الإنسانية لا بدّ منها لتنفيذ كل برنامج إصلاحي كما يجب أن تكون الهدف الأخير لجميع هذه البرامج.
وإذا ما قبلنا ذلك مبدئياً، فإن القضية الأرثوذكسية تبدو لنا بسيطة جداً إذ أنها في النهاية قضية نزاهة وتضحية وإخلاص، قضية إيمان صميمي خلاّق، وإلى ما غير ذلك من الصفات الطبيعية للرجل المؤمن ومن الثمار الطبية للتربية المسيحية.
كما أن الإصلاح الذي دُعي مدة ما “الإصلاح الطائفي” يبدو في الأساس إصلاحاً شخصياً لا طائفياً، والمشكلة الأرثوذكسية تبدو جزءاً من المشكلة الدينية العالمية، والانحطاط الحاضر يبدو وليداً للتيار المادي واللامادي الذي يسعى للسيطرة على العالم وخنق الروحانية المسيحية، وما نضالنا في حقل الكنيسة إلا مرحلة من النضال القائم أبداً بين قوى الشر والخير، بين الموت والحياة.
أمام هذه المشكلة الخطيرة التي تهدد كيان العالم الروحي وكيان الكنيسة خصوصاً لن نقف حائرين متفرّجين. بل علينا أن نجابهها بثقافة مسيحية متينة وتيار روحي معاكس.
إن هذا التيار الذي يتجسّم في أشخاص ممتازين كفيل وحده باستئصال الداء الطائفي من بذوره وبالتالي من جميع المظاهر الخارجية. التربية المسيحية وهي في الأساس إدخال المسيحيين في المسيحية هي إذاً حجر الزاوية في بناء النهضة الأرثوذكسية الجديدة ويجب أن تكون الهدف الأول والمباشر لكل حركة إصلاحية. ولما كانت العائلة والمدرسة المركزين الرئيسيين للتربية كانا ميزان الحالة الطائفية وكان تأسيس العائلة المسيحية والمدرسة الأرثوذكسية الركن الركين لعمل حركتنا. ولكي نفهم ذلك فهماً صحيحاً وجب علينا أولاً أن نبيّن بإيجاز وجهة نظر حركتنا في هذين الحقلين الرئيسيين ثم نرى كيف عملت على إزالتهما.
أيها السادة، تعتقد حركتنا أن تفكك عرى العائلة مسبب من جراء سيطرة التيار الدنيوي الجارف أحد أسباب الانحطاط الحاضر وأن العائلة الأرثوذكسية التي كانت دائماً في بلادنا الحصن الحصين لحسن العبادة وللتربية المسيحية تفقد تدريجياً دورها التقليدي. ان الآباء والأمهات يعتبرون اليوم أن واجباتهم تجاه أولادهم تنحصر بإعداد التغذية والكسوة وتوفير العلوم المدرسية. ولكنهم أهملوا الاهتمام بأخلاق الولد وحياته الروحية وبالمشاكل الجوهرية التي تضعها الحياة أمامه، وأما تلقينه مبادئ ديانته الأولية والصلوات الضرورية فإن الأكثرية الساحقة من الأهلين يتهرّبون منها لا لسبب إلا لأنهم يصرفون الأوقات اللازمة لهذا العمل في الملاهي والمقامرات ولأنهم عاجزون عن القيام بهذه المهمة لجهلم الديني.
إن حركة الشبيبة المسيحية الأرثوذكسية ثورة على التفكك العائلي المعاصر. ان حركتنا تعمل منذ الآن على إيجاد شروط ملائمة لنموّ العائلة المسيحية الكاملة. وما شبابها وشاباتها إلا آباء وأمهات الغد وواضعو أسس التربية الأرثوذكسية الصحيحة. إن شبابنا وشاباتنا يتعلّمون قضاء أوقاتهم في الاجتماعات المفيدة وفي اكتساب المعارف الدينية والأدبية اللازمة لنشر روح الكنيسة في النشء الجديد الذي سيتربى على سواعدهم.
أما المدرسة التي يبقى على كاهلها القسط الأوفر في إعطاء الثقافة الدينية فإن حركتنا تعتقد بأنها لا تقوم بمهمتها على الإطلاق أو تقوم بها بشكل غير مجدٍ في أكثر الأحيان. ومع ذلك فحركتنا لا تقول مع الكثيرين، بأن أزمتنا مولودة من عدم وجود كلية طائفية كبرى تجمع شمل أولادنا. لا نقول ذلك لأن ضخامة البنايات وعدد التلاميذ ليسا الهدف من المدرسة الأرثوذكسية. إن المدارس هي أداة تربوية وهذا مبرّر وجودها والمدرسة الأرثوذكسية كبيرة كانت أم صغيرة هي التي تثبت في قلب النشء مع العلوم الطبيعية روح الوطنية الحرة والروح المسيحية العاملة والثقافة الدينية. المدرسة الأرثوذكسية هي التي تقوم بهذه الرسالة السامية التي تجعل منها جزءاً متمماً للكنيسة في عملها الإنساني، فأين مدارسنا الآن من هذه الرسالة وأين هي من تلقين طلابها المبادئ الحيّة للدين والوطنية؟ إن الأرثوذكسية اليوم لا تحتاج إلى بناء المدارس الضخمة بقدر ما تحتاج إلى بنيان الشخصية الإنسانية الكاملة في المدرسة وخلق جو ديني صحيح يتغذى فيه كيان الطالب وينمو. وإذا كان من الأكيد أننا لم نبلغ بعد هذه الرسالة في مدارسنا الحاضرة فكيف لنا تحقيقها في كليات عظيمة؟ إننا نحتاج الى عمل في العمق لا في السطحية وعلينا أن نجتاز مرحلة أولى في نمو مدارسنا وهذه المرحلة هي تجديد مدارسنا الحاضرة بالروح المسيحية الصرفة التي تشمل الروح الوطنية الصادقة.
إن حركة الشبيبة الأرثوذكسية تقوم الآن باجتياز هذه المرحلة عوضاً عن المدرسة وبالفعل لقد أصبحت الحركة حالياً المدرسة الأرثوذكسية الكبرى المشهورة في سوريا ولبنان، مدرسة ليس لها حدود ولا جدار لكنها تضم ألفيّ طالب من جميع البيئات والطبقات من المحامين والتلامذة والأطباء والمهندسين، من القرويين وأهل المدن. وفي هذه المدرسة الضخمة يتعلّم شبابنا وشاباتنا مبادئ الدين القويم في الاجتماعات الأسبوعية التي يعقدونها، ويجتهدون لبناء ثقافة انسانية مبنية على روح الكنيسة ولحلّ مشاكلهم الاجتماعية بالمبادئ المسيحية العامة. ان حركة الشبيبة الارثوذكسية تفاخر بأنها حقّقت هذا الحلم الجميل – وهو إعداد نشء أرثوذكسي صحيح – دون اللجوء إلى الوسائل المالية.
إن حركتنا تفاخر لأنها أعدّت للكنيسة وللوطن والعائلة شباباً واعياً لمسؤولياته في الحياة وللمثل الأعلى الذي على كل إنسان تحقيقه…
مجلة النور العددين 3و4 1946، ص 55-58.