بقلم الأستاذ ألبير لحّام
هذه المقاطع التأملية ألقاها الأستاذ ألبير لحّام أمين سر الحركة السابق من راديو بيروت أثناء البرنامج الذي قدمته جوقة المركز في 8 كانون الثاني سنة 1947.
“باعتمادك يا رب في نـهر الأردن ظهَرَت السجدة للثالوث لأن صوت الآب تقدّم لك بالشهادة
مسمّياً إياك ابناً محبوباً. والروح بـهيئة حمامة يؤيّد حقيقة الكلمة. فيا من ظهرت وأنرت العالم
أيـها المسيح الإله المجد لك”.
بـهذه الترانيم الملهمة تمجّد الكنيسة الأرثوذكسية لاهوت المسيح الذي ظهر في الأردن وتتأمّل في سرّ الحياة الإلهية المثلثة الأقانيم الذي أعلن للبشر ببهاء فائقٍ بعد صعود يسوع من الماء.
فبالأمس شاهدتك الكنيسة يا يسوع، في مغارة حقيرة طفلاً جديداً، شريكاً لنا في الطبيعة، مولوداً في زمن، خلواً من أب، من أم بتول. واليوم تراك إلهاً في الجوهر والأقنوم، مولوداً قبل الدهور، خلواً من أم، من الآب الأزلي. فهذا صوتُ الآب يعترفُ لك بأنك ابن محبوب، وهذا الروح، روح الحق المنبثق من الآب، يحلُّ عليك ويستقر فيك، شاهداً بأنك إله حق من إلهٍ حق. لذلك فبظهور لاهوتك اليوم، يظهر معك الآب والروح، لأنك وان كنتَ بين البشر متجسّداً، إلا أنك لم تزل غير منفصلٍ عن أحضان الآب مع الروح، قوةً واحدة ولاهوتاً واحداً غيرَ منقسم.
ظهرتَ أيها المخلّص فعَرَفَتْكَ الخليقة بأسرها، لأن الخليقةَ كانت منذ سقطة آدم تئنُّ وتتوجّع منتظرةً يوم خلاصك.
“أبصرَتْكَ المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت. الأردن رجع الى الوراء لـمّا شاهد نار اللاهوت منحدرة وحالّةً عليه بالجسد… الأردن رجع إلى الوراء والجبال تـهلَّلت بمشاهدتـها غير المنظور منظوراً والخالق متجسداً، والسيد بصورة عبد … والسحب أعطت صوتاً متعجبة من الآتي …” والسماء انذهلت، والملائكة ارتعدت، واحتشمت جميع المنظورات وغير المنظورات.
أما يوحنا السابق، فقد عرفك عندما أتيت إليه “مغرقاً في الأردن موت المعصية وشوكة الضلالة” كما كان قد عرفك يوم أتيت إليه جنيناً، حين كان في أحشاء أمه. فابتهَجَتْ نفسه، وارتعدت يده، وقدّم لك شهادة العهد القديم هاتفاً: “هوذا حمل الله الرافع خطايا العالم”.
أما نحن معشر مستقيمي الرأي المخلَّصين بك، إذ رأيناك بالحقيقة إلهاً متنازلاً لأجلنا، يشملنا الخوف، ونـهتف إليك بخشوع، ونشكرك بصوت الكنيسة قائلين: لقد ظهرتَ وأنرتَ العالم بنور معرفة الإله المثلث الضياء، المجد لك!
***
“يا ولدي تيطس، لقد ظَهَرَت نعمة الله المخلّصة لجميع الناس مؤدبة إيانا. حتى إذا أنكرنا النفاق والشهوات العالمية نحيا في الدهر الحاضر على مقتضى العفاف والعدل والتقوى، منتظرين الرجاء السعيد وظهور مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح… فلمّا ظهر صلاح الله مخلّصنا ومحبته للناس خلّصنا هو لا اعتباراً لأعمال برّ عملناها بل لرحمته بغسل إعادة الولادة وتجديد الروح القدس. الذي أفاضه علينا بسخاء بيسوع المسيح مخلّصنا. حتى إذا تبرّرنا بنعمته نصير ورثة على رجاء الحياة الأبدية”.
بـهذه الكلمات يذكّرنا بولس الإناء المصطفى، وفم الكنيسة الجامعة، يذكّر تيطس، وتيطس هو كل واحد منا، أن المسيح إذ قد ظهر أولاً، خلصنا بمعمودية الماء والروح، فأصبحنا ورثة على رجاء الحياة الأبدية، التي سوف تكتمل فينا بالظهور الثاني للمسيح.
فباعتماده بالماء، وبحلول الروح، فتح لنا طريق إعادة الولادة بالماء والروح. لأن المسيح بظهوره “قدّس طبيعة الماء” وجعلها قادرة على تطهير الخاطئين، وتقديس المعتمدين. فعندما اعتمد المسيح بمياه الأردن، أعطانا سرّ المعمودية بالماء المقدّس. وكما حلّ الروح القدس عليه فور صعوده من الماء، وهب كنيسته الأرثوذكسية سرّ الميرون، لنُختم مثله بالروح، فور إتمام المعمودية. فالمجد للذي بالماء والروح جدّد طبيعتنا وثبّت كنيسته الى الأبد.
وكما أن روح الله كان على المياه عندما خلق الله العالم، كذلك حلّ الروح القدس على مياه الأردن عندما جدّد الله العالم بيسوع المسيح. وكما أن صوت الرب الطائر على المياه أبدع في البدء ونظّم الخليقة، كذلك صوت الرب على مياه الأردن وكلمة الله الواقفة فيه هما ينبوع الخليقة الجديدة. “فالمياه كانت في بداية العالم، والأردن صار بداية الإنجيل” كما يقول كيرللس الأورشليمي. فهلمّوا إذاً إلى المياه أيها العطاش، يقول اشعياء النبي. أجل هلمّوا الى المياه أيها المؤمنون “وخذوا جميعكم روح حكمة، روح فهم، روح مخافة الله، بظهور المسيح”.
“لقد ظَهَرْتَ اليوم للمسكونة يا رب، ونورك قد ارتسم علينا نحن الذين نسبّحك عن معرفة قائلين: لقد أتيت وظهرت أيها النور الذي لا يُدنى منه”.
لقد أتيتَ وظهرتَ أيها النور الذي لا يُدنى منه، فارتسم نورك على الطبيعة البشرية التي لبستها فطهّرتـها وألّهتها، لأنك وأنت غير محتاج الى تطهير، أيها الإله الكامل البارزُ من الكامل، والإنسان الكامل المولود من أكمل المخلوقات، قبلتَ، من أجلنا، المعمودية في الأردن لتطهير طبيعتنا من الخطيئة. وها نحن الذين اعتمدنا فيك بالأردن واغتسلنا فيك من سُمِّ العدوّ المظلم الدنس، قد اتّحدنا بلاهوتك وشرعنا نسير في طريق جديدة، غير مضلّةٍ، تؤدّي إلى سرور غير مدرَك، لا يناله إلا الذين تصالحوا بك مع الله.
هو سرّ محبّة أيها المؤمنون، لأن المسيح إذ شاهد آدم عند سقطته عرياناً، أتى بنفسه لابساً حلّة آدم، فتعرّى في الأردن معتمداً، لكي يلبسنا حلّة اللاهوت، فيا جميع “الذين بالمسيح اعتمدتم، إنكم قد لبستم المسيح” لأنّ المسيح قد لَبِسَكم بجسده ورفعكم معه إلى السماوات.
مجلة النور كانون الثاني 1948، ص 1-4.