للأستاذ ألبير لحام
(من خطاب ألقاه في بيروت بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثامنة لتأسيس الحركة)
إن الحركة تود ألا تكون حفلتها السنوية هذه مجرّد فرصة لاجتماع الأخوة الأرثوذكسيين على مستوى العاطفة والشعور، إنما تريدها فرصة للتأمل المشترك في مشاكلنا الداخلية العويصة، ينبثق منها عمل جدّيّ في سبيل النهضة التي نبحث عنها.
ولذلك أعتبر نفسي مقصّراً في واجباتي تجاه الحركة وتجاهكم وتجاه الكنيسة، إن أنا لم أستخلص معكم، بإيجاز ووضوح، الفكرة التي تنتج عن الخطب التي أُلقيت في هذه الحفلة، والتي يجب أن تكون موضوع تأملاتنا عند مغادرتنا هذه القاعة.
يبدو لي أن هذه الفكرة هي: إن العمل في سبيل النهضة المنشودة ليس وقفاً على فئة من أبناء الطائفة دون فئة أخرى، إنما هو ملقىً على عاتق كل أرثوذكسي أمين، وأن هذه النهضة ستقوم بفعل ومجهود كل فرد من أفراد الطائفة أو لا تقوم مطلقاً، وأنه بالتالي لا يحق لأي إنسان أن يعتبر أن هناك بعض الأشخاص يتحمّلون وحدهم مسؤولية الإصلاح في الطائفة بصورة أنه إذا لم يعمل هؤلاء شيئاً فكل عمل في سبيل الإصلاح هو غير مجدٍ وعقيم.
لقد أرادت الحركة أن تستعرض أمامنا في هذه الحفلة أزمتنا الأخلاقية والعائلية ومشكلة مدارسنا الملّية وكهنتنا، لا لكي تذكّرنا بواقع أليم وتقودنا إلى اليأس، ولا لتحمّل مسؤولية هذه الأزمة الى أناس معينين، بل بالعكس لكي تثبت أن هناك مجالاً واسعاً فسيحاً مفتوحاً أمام كل مسيحي مخلص، للعمل المثمر الفعال في حقل النهضة والإصلاح.
لقد أرادت الحركة أن تلمسوا لمس اليد أن الأزمة الحاضرة هي في الأساس أزمة الطائفة كمجموعة بشرية لها عاداتـها في التفكير والعمل والحياة، وأن المشكلة المطروحة أمام الطائفة هي مشكلة كل واحد منكم، مشكلة عائلاتكم، مشكلة أطفالكم، وأن النهضة يجب أن تعبّر عن ذاتـها في النهاية في حياتكم، في حياة عائلاتكم، في حياة أطفالكم، وأن الإصلاح موقوف بالتالي على عمل كل واحد منكم، على عمله الإيجابي الشخصي المباشر.
لقد كان الرأي السائد في الطائفة حتى اليوم أن الإصلاح يجب أن يتم في مؤسسات لا في أشخاص، وأنه يتحقّق بضبط الأوقاف وجمع الأموال وتشييد الأبنية، وأن المسألة كل المسألة هي في التنظيم والإدارة وسنّ القوانين، وأن تحقيق هذه الإصلاحات الإدارية والعمرانية جميعها هو في يد الرئاسة الدينية وبعض متزعّمي الطائفة، وأنه طالما أن هؤلاء لا يقومون بشيء من هذا القبيل يبقى الإصلاح حرفاً ميتاً، وتبقى الطائفة على حالتها الشائنة، تسير من سيء إلى أسوأ.
وكان الرأي السائد أيضاً أن نصيب الشعب من الإصلاح ينحصر في إقناع رؤساء الطائفة بإجراء الإصلاحات المبتغاة، حتى إذا لم يقتنع الرؤساء، قام الشعب يطالب بالطرق الصاخبة الغوغائية الفوضوية السلبية، ينتقد ويقرّع ويحتجّ ويهاجم.
من لا يرى أن نظرة كهذه إلى الشؤون الطائفية تؤول الى اعتبار الطائفة مؤلفة من فئتين مختلفتين فئة صغيرة مدعوة وحدها للعمل الإيجابي، وفئة أخرى لا عمل لها إلا مطالبة الآخرين بالعمل، فئة مسؤولة وحدها عن كل انحطاط وكل إصلاح، تُنتَقَد وتُـهاجَم، وفئة أخرى تتبرّأ من مسؤوليات الحالة وتطالِب بإصلاحات بالكلام وبالعنف أحياناً، تَنتَقِد وتُـهاجِم، فئة تحمل وحدها بين يديـها مقدرات المسيحية في البلاد، وفئة أخرى تعيش على هامش المسيحية، لا شأن لها ولا دور في إتمام رسالة المسيح.
أيـها السادة، إن نظرة كهذه إلى الكنيسة هي جحود لتعاليم المسيح، هي نظرة الجبناء والملحدين، هي حجر الزاوية في هيكل الانحطاط، هي حجر عثرة في سبيل كل إصلاح.
هل تعتقدون جدياً أنكم بعيدون عن سر الكنيسة، حيث المعركة الفاصلة في تقرير مصير الإنسان، مصيري ومصيركم. هل تعتقدون حقاً بصواب نظرية تُقصي عن العمل المسيحي الأكثرية الساحقة من المسيحيين، كأنما الإله بذل دمه لأجل فئة دون فئة؟ هل تعتقدون أن الرب قَصَرَ نجاح رسالته الخلاصية وانتشارها على جمع الأموال وتنظيم الأوقاف، وأوصى بأن نجابه روح العالم المادية بمادة لا روح فيها، هل تعتقدون أخيراً أن استعلان الله بمجد لن يكون في لحم ودم وبشرة تتحرك وتحيا بالروح، بل بـهياكل مادية مصنوعة بالأيدي!
ألا ترون أنه يجدر بنا أن نتخلص نـهائياً من هذه النظرية السخيفة الانـهزامية السلبية في الإصلاح، وأن يحل محلّها نظرية ملؤها الأمل، مستمدة من روح الأرثوذكسية وجوهرها.
ألا ترون معنا أنه يجدر بنا أن نتخطّى المظاهر الخارجية والمؤسسات الطائفية لنحدّد إمكانيات العمل لا بالنسبة لتحقيق هذه المظاهر بل بالنسبة إلى الهدف الأخير الذي يجب أن ترمي إليه؟
أن نضبط الأوقاف ونجمع الأموال ونشيّد الأبنية؟ نعم. ولكن هذا ليس هو كل الإصلاح.
أن نـهتم بالتنظيم والإدارة وتجديد القوانين؟ نعم. ولكن هذا ليس هو كل الإصلاح. أن نتوسّع في المشاريع العمرانية والخيرية والعلمية؟ نعم. ولكن هذا ليس هو كل الإصلاح.
الإصلاح؟ هو في الانقياد المطلق المطيع لروح المسيح في الكنيسة، يوجّه الأفراد والجماعات، ويحيي حرف الناموس، ويقيم من الحجارة أبناء لإبراهيم. هو في أن يصبح كل فرد مسيحي مسيحياً بالحقيقة، وأن تصبح العائلة المسيحية، مسيحية بالحقيقة، وأن تحمل المدرسة الأرثوذكسية والطائفة الأرثوذكسية رسالة المسيح بالحقيقة.
الإصلاح؟ هو في أن أحقق إنسانيّتي الكاملة المثلى ضمن إنسانية المسيح الكاملة المثلى، هو في أن يشع من تلك المجموعة البشرية الحية نور الألوهية بين البشر، مرشداً إلى السلام الحقيقي والمحبة المطلقة والخدمة الصامتة المتفانية.
هو إصلاح الأرثوذكسيين كأفراد وكمجموع، في الرأس وفي الأعضاء، ليكونوا جسداً واحداً للمسيح، متألماً لخلاص العالم.
إن إصلاحاً كهذا الإصلاح ليس بعيداً عني وعنك، ليس غريباً عن مصيري ومصيرك.
إن إصلاحاً كهذا الإصلاح أقدر أنا وأنت أن نقوم به مهما كانت الظروف الخارجية، مهما كانت ثروتنا الشخصية، مهما كان مدى اهتمام الآخرين بالتنظيم والإدارة والعمران.
إن إصلاحاً كهذا الإصلاح مسؤول عنه كل إنسان دون استثناء لأنه يجب أن يتم في كل إنسان، وأن يحققه كل إنسان في حياته ودائرته: الوالد في عائلته، والعامل في مركز عمله، والمعلم في مدرسته، والمتولي في أوقافه، وعضو اللجان والمجالس الطائفية في لجانه ومجالسه.
هو إصلاح شامل لتحويل البشر بروح الله وتنظيم المادة بروح الإنسان المتأله، هو تجنيد قوى الطبيعة والبشر – من مادية وفكرية وروحية – لبنيان صرح الإنسانية الأمثل المرتجى.
أيها السادة، هي دعوة إلى العمل السريع المباشر نبثها إليكم جميعاً. إن النهضة التي تنشدون هي نـهضتكم. فلا تتهرّبوا من مقتضياتـها إن كنتم لها مخلصين. إنـها تُشترى بثمن غالٍ. فهل أنتم مستعدّون لتعجيل الثمن آمنين؟
إنـها تصبح ممكنة إذا نظر كل إنسان إلى نفسه متخشعاً. وقرر تجديد ذهنه ليختبر إرادة الله الصالحة الراضية الكاملة.
إنـها تصبح ممكنة إذا سلخ كل واحد منا ذاته عن روح هذا العالم الشرير وقدّم جسده وروحه ذبيحة حيّة مقدّسة لله.
إنـها تصبح ممكنة إذا تسلّح كل واحد بسلاح الإيمان والرجاء والمحبة الشاملة، ليحيي الإيمان والرجاء والمحبة في عائلته وفي بيته.
إنـها تصبح ممكنة إذا كان كل فرد يسعى بوسائله الخاصة لتحقيق أكبر خير ممكن لبناء الكنيسة في البشر.
أنا أعلم أن هذا الأمر ليس بسهل على الإطلاق وأن الكثيرين سيتسائلون متعجبين عن معنى هذه الولادة الجديدة. ولكني أعلم أيضاً أنه لا بد من صليب التضحية الكاملة للوصول إلى نور القيامة، وأعلم أن الساعة الحاضرة ليست للجبناء والضعفاء والمرائين بل هي ساعة الأبطال الأشدّاء والشهداء والقدّيسين.
نحن الآن في ساعة تاريخية حاسمة، يحيط بنا الجهل ويكتنفنا الظلام ولسنا نرى سوى معالم الجهل والفساد في مجتمعنا. فهل ترغبون في بناء الحضارة والروح، وهل ترغبون في أن تساهموا بالمجهود الديني الذي يبذله شباب الحركة وتبذله حركات دينية كبرى في سائر أنحاء العالم المسيحي.
أتريدون أن تنظروا غيركم كمن يشاهد رواية تجري بمعزل عنه أم أن تخوضوا المعركة الروحية الكبرى وتكافحوا الشر والجهل في سبيل تنصير النصارى وبناء الكنيسة بناء متيناً جديداً ركنه المسيح وحجارته أنتم.
أيها السادة، إن مصير النهضة الروحية في الشرق هو بين يديكم، يتوقف على القرار الذي ستتخذوه في هذا اليوم. ألا فاعلموا أن الأجيال الأرثوذكسية المجيدة الغابرة تتطلّع إليكم وكأني بـها تقول: من وضع يده على المحراث فلا ينظر إلى الوراء.
مجلة النور أيار 1950، ص 116-119.