مدخل إلى الأناجيل المنحولة

الأب جورج مسّوح Thursday June 15, 1995 230

ظهرت، في الفترة التي شهدت تدوين الأناجيل، أناجيل عدة اعتبرتها الكنيسة محرَّفة وغير قانونية. هذه الأناجيل نُسبت اختلاقاً إلى الرسل أو إلى تلامذتهم، وهي تنتمي إلى الأدب الإنجيلي أو الرسائلي أو الرؤيوي ومنها ما يتضمن سرداً لأعمال الرسل. تُقسم هذه الأناجيل إلى قسمين: منها ما هو مزوَّر ويتبنّى عقائد غير مستقيمة، ومنها ما هو سليم عقائدياً إنّما يروي خرافات وقصصاً خيالية لا معنى لها أوجبت استبعاده عن لائحة الكتب القانونية. أمّا الجماعات التي ظهرت فيها هذه الكتب فأغلبها غنوصي (عرفاني) ومسيحي متهوّد. يعود الفضل في اكتشاف بعض الأناجيل المذكورة إلى المخطوطات التي وُجدت في مغارة “نجع حمادي” في مصر، ذلك أنها لم تكن معروفة قبلاً إلّا بالإسم.

اللائحة القانونية للكتب المقدّسة كما نعرفها اليوم مرّت بمراحل متعددة قبل أن تثبت نهائياً في القرن الرابع الميلادي. يرقى بعض الشهادات إلى القرن الثاني: منها قانون موراتوري وهو مخطوط من القرن الثامن ونجد فيه اللائحة التي قُبلت في روما حوالي السنة 180، ومنها أيضاً مؤلّفات القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202) وترتليانس (+220) واكليمنضس الإسكندري (قبل +215) وأوريجنس (+254). هذه اللوائح تطابق تقريباً القانون الحالي. أمّا لائحة أفسابيوس القيصري (+340) فتضمّ كل القانون الحالي ما عدا كتاب الرؤيا1، الذي قبله القدّيس أثناسيوس الكبير الذي حدّد، في السنة 367، قانون العهد القديم والعهد الجديد. ثم تبنّاه القدّيس إيرونيمس في ترجمته اللاتينية للكتاب المقدّس (بين السنة 384 والسنة 395)2.

ثمة ثلاثة أنواع من الأناجيل المنحولة3:

­ الأناجيل المدعوّة إزائية وهي القريبة من تصميم الأناجيل الإزائية القانونية، ومنها: إنجيل بطرس، إنجيل العبرانيين، إنجيل المصريين، إنجيل الناصريين4، إنجيل الأبيونيين (المعروف ايضاً بإنجيل الإثني عشر).

­ الأناجيل الهرطوقية ومنها: إنجيل يهوذا، إنجيل برثلماوس، إنجيل برنابا5، إنجيل باسيليدس …

­ الأناجيل الخيالية التي تروي قصص طفولة يسوع وأهله، ومنها :إنجيل يعقوب، إنجيل متّى المنحول، قصة طفولة يسوع لتوما ( وهي غير إنجيل توما الغنوصي)، قصة يوسف النجّار، وقصة الآلام (أو إنجيل نيقوديمس) …

الطابع الخيالي للأناجيل الأبوكريفية (المنحولة) البعيد عن الأحداث التاريخية حدا بالكنيسة أن تعلن أن هذه الكتب لا أهمية تعليمية لها، وأنها تشوّه الإيمان بتركيزها على الخوارق من دون العبر التي تتأتّى عنها. فمثلاً يروي كتاب “طفولة الرب يسوع” لتوما قصة6 عن يسوع حين كان طفلاً في الخامسة يلعب قرب غدير. “فجبل طيناً ناعماً وصنع منه اثني عشر عصفوراً. وفعل ذلك في يوم السبت”. فشكاه أحد اليهود إلى يوسف لأنه يدنّس السبت. وبعد تأنيب يوسف له، صفّق يسوع بيديه وصرخ قائلاً للعصافير: “طيري” فابتعدت العصافير وهي تزقزق7.

بعض الأناجيل يحتوي على تعاليم دوكاتية (مظهرية)، ذلك أن هذه الأناجيل قد استبدلت حقيقة التجسد التاريخي بتجسد خرافي ذي طابع مظهري غير ملموس. فالمظهريون الغنوصيون كانوا يعتبرون أن المسيح لم يتخذ جسداً حقيقياً إنمّا مظهر جسد، لذلك كانوا ينكرون حقيقة موته على الصليب وتالياً حقيقة قيامته. يوجد في أعمال يوحنا وصف لعملية الصلب، حيث يصف الصليب بصليب النور (وهي صفة محض غنوصية) ويتابع قائلاً على لسان المسيح: “لستُ ذاك المعلق على الصليب8، أنا الذي لا تراني وإنّما تسمع صوتي فقط. لقد اعتقدوا أني ذاك الذي لستُ إيّاه، ذلك أني لست ذاك الذي كان بين الناس”9. وفي موضع آخر من الإنجيل عينه نجد يوحنّا يقول: “أراني المسيح صليباً من نور. ورأيت الربّ نفسه عليه، ليس له هيئة مرئيّة، وإنّما له صوت فقط. وهذا الصوت لم يكن كالذي عهدناه، ولكنه كان صوتاً عذباً، لطيفاً وإلهياً بالحقيقة، قائلاً لي: هذا الصليب النوراني، لأجلكم، أدعوه أحياناً كلمة، أحياناً أخرى أدعوه إدراكاً، أحياناً أدعوه يسوع، وأحياناً أدعوه المسيح، أحياناً أدعوه الباب أو الطريق أو الخبز أو البذار أو القيامة أو الإبن أو الآب أو الروح أو الحياة أو الحق أو الإيمان أو النعمة”10. هذان المقطعان من أعمال يوحنّا المنحول يدلّان على طابعه الغنوصي والهرطوقي حيث إنه يخلط بين الآب والإبن والروح القدس، ويفصل بين المسيح الآتي من فوق ويسوع الإنسان الأرضي، ويختلق قصة إختفاء المسيح الذي لم يُعرف. كان الغنوصيون يعتقدون أيضاً أن المسيح (الكائن الإلهي) الذي هو فيض من الألوهة الأزلية قد حلّ على يسوع الإنسان أثناء المعمودية وتركه قبل الآلام. رفضت الكنيسة هذا التعليم المقسِّم شخص المسيح الإله المتجسد وأكّدت على أنه واحد في طبيعتيه واعتبرت أن الإيمان بهذه الحقيقة أساسي للخلاص.

يغلب على بعض الأناجيل الطابع الأخروي، كإنجيل بطرس (بداية القرن الثاني في سوريا) مثلاً، حيث يروي حدث القيامة بأوصاف رؤيوية: “في الليلة التي بزغ فيها يوم الرب وفيما كان الحرّاس يتناوبون الحراسة سمع صوت عظيم فرأوا السموات مفتوحة ورجلين يهبطان منها بنور عظيم ويقتربان من القبر. أمّا الحجر الذي كان على باب القبر فأخذ يتدحرج جانباً حتى أصبح القبر مفتوحاً ودخله الرجلان … ورأيا أيضاً ثلاثة رجال خارجين من القبر، وكان اثنان منهم يسندان الثالث ويتبعهم صليب. وكان رأسا الرجلين يناطحان السماء بينما رأس الثالث الذي يقوده الاثنان يتجاوز السماء. وإذا بهما يسمعان صوتاً من السموات صارخاً: “هل بشّرت النيام؟”، فأتى الجواب من الصليب: “نعم”11. بالنسبة الى دانييلو، هذا الوصف المبالغ فيه ليس إلّا لإبراز ألوهة المسيح والتشديد عليها ولتبيان عظمة الملائكة12.كما يلاحظ دانييلو أن هذا النمط الكتابي كان موجوداً في الأدب اليهودي الرؤيوي، ويلاحظ أيضا تقارباً بين رواية القيامة في هذا الإنجيل وفي كتاب “صعود أشعيا” ويعزو ذلك إلى بيئة كنيسة أنطاكية المسيحية المتهوّدة ولا يستبعد التأثير الغنوصي عليهما13.

الإنجيل الذي يمثّل الفكر المسيحي المتهوّد الأكثر أرثوذكسية، هو إنجيل العبرانيين وقد ذكره اكليمنضس الإسكندري وأوريجنس. الطابع المسيحي المتهوّد للإنجيل صريح، فهو يطلق على الروح القدس لقب “الأم”، لأن الروح باللغة العبرية اسم مؤنث، وبما أنه يوجد آبٌ فلا بدّ من وجود أم. وبعد معمودية المسيح، يقول الروح له: “أنت هو ابني البكر”، هذا القول يفترض الطابع الأنثوي للروح. كما يعطي هذا الإنجيل الأولوية ليعقوب وليس لبطرس، لذا القول بأن الكتاب هذا قد دوِّن في أوساط المسيحيين المتهوّدين المنتمين إلى كنيسة أورشليم قبل الشتات، وهو أقدم الكتب المسيحية المتهوّدة. القدّيس إغناطيوس الأنطاكي عرف هذا الإنجيل، إذ إنه يستشهد به في الرسالة إلى أهل إزمير: “ألم يخاطب بطرس ومعه قائلاً جسّوني والمسوني وانظروا أني لست روحاً (أو شبحاً) بلا جسد” (3، 2)، هذه الآية مأخوذة من إنجيل العبرانيين أوردها إيرونيمس، لهذا يمكننا القول إن تدوين هذا الكتاب يعود إلى نهاية القرن الأوّل14.

تتميّز الأناجيل الغنوصية، كإنجيل توما وإنجيل فيليبس وإنجيل الحقيقة (إنجيل أتباع فالنتينوس الغنوصي المبتدع الوارد ذكره في كتاب “ضد الهرطقات” (3، 11، 9) للقدّيس إيريناوس)، بطابعها الباطني (Ésotérique) والميثولوجي العرفاني. هذا الطابع الباطني الذي نجده في إنجيل توما هو سمة الغنوصية المسيحية المتهوّدة، كالحديث عن الأشجار الخمس في الجنّة (القول 19). ويعطي إنجيل توما أهميّة خاصة ليعقوب حين يقول عنه على لسان يسوع: “أينما ذهبتم (أي التلاميذ) تتّجهون إلى يعقوب البارّ الذي من أجله صنعت السماء والأرض” (القول 12)، لذا القول ببيئته المسيحية المتهوّدة.

يقول القديس إيريناوس أسقف ليون الغاليّة: “إن المدارس الغنوصية قد أفسدت وزوّرت المعنى الحقيقي للكتاب المقدّس، إذ إنها كانت تأخذ مقاطع من العهد القديم، ومن النبوءات، ومن أمثال المسيح، وتحوّرها كما يوافق تعليمها، أو إنها كانت تجمع مقاطع من هنا وهناك وتدمجها مع بعضها البعض لتعطيها معنى جديداً هو بعيد كل البعد عن الحقيقة التاريخية … ولا أحد يعرف المعنى الحقيقي لتعاليم المسيح إلّا الغنوصيون أنفسهم الذين أعطيت لهم نعمة خاصة هي موهبة فهم سرّ الله وتعاليمه الخفية”15. لقد خصّص قديسنا كتابه “ضد الهرطقات” للردّ على البدع الغنوصية المنتشرة بكثرة عند نهاية القرن الثاني، لذلك نجد في هذا الكتاب عرضاً لأهمّ مراحل تاريخ البدع وتاريخ تدوين الأدب الأدب المسيحي المستقيم وغير المستقيم.

أمّا إنجيل توما الذي تجدون ترجمة له إلى العربية في مكان آخر من هذا العدد، فهو إنجيل غنوصي يتألف من 114 قولاً سرّياً ليسوع خارج أيّ إطار قصصي أو تاريخي. يحوي هذا الإنجيل تعاليم خطيرة في ما يخصّ العبادة المسيحية، فهو يظهر أن المسيح كان ضد الصلاة والصوم والتصدّق: “قال لهم يسوع: إن صمتم تنسبون لأنفسكم خطيئة وإن صليّتم تدانون وإن تصدّقتم تفعلون شرّاً لأرواحكم” (القول 14). وفي مكان آخر يقول: “قالوا له (أي تلاميذه): هلمّ نصلّي ونصوم في هذا اليوم. قال يسوع: ما هي الخطيئة التي أقترفتها ، وبماذا غُلبتُ؟ متى خرج العريس من الخدر، عندئذ فليصوموا ويصلّوا” (القول 104). هذا يوضح أن إنجيل توما لا يشهد للمسيح بل للغنوصيين وتعاليمهم. أما الطابع الباطني في هذا الإنجيل فنجده مثلاً في القول الثاني عشر، حيث “أخذ يسوع توما (بعد أن قال له يسوع في القول عينه: لستُ معلّمك) إلى مكان منفرد وقال له ثلاث كلمات، وعندما رجع توما نحو صحبه طلبوا إليه أن يكشف لهم الكلمات التي قالها يسوع. فقال توما: إذا قلت لكم ممّا قال لي كلمة واحدة لأخذتم حجارة وضربتموني بها ولرأيتم ناراً تخرج من الحجارة وتحرقكم”.

رفض الكنيسة الأناجيل الأبوكريفية يتأتّى إذاً من أسباب عدة ليست بالضرورة موجودة كلها في كل هذه الأناجيل:

  • الطابع الأسطوري للقصص،
  • عدم تاريخية الأحداث،
  • الطابع الباطني والمستور لبعض تعاليم يسوع وأحداث حياته،
  • التعليم العقائدي المغلوط والمخالف لمفهوم الخلاص المسيحي (كنكران التجسّد مثلاً)،
  • عدم ثبات تسلسلها الرسوليّ.

لقد زوّر الغنوصيين تعاليم يسوع المنقولة بواسطة الرسل وأتباعهم، فرسموا صورة ليسوعهم مغايرة لصورة يسوع الحقيقية الموجودة في الأناجيل القانونية، فشوّهوا يسوع المسيح الإله الصائر إنساناً والمخلّص العالم.

—————

  • شربنتيه (الأب إسطفان)، دليل إلى قراءة الكتاب المقدّس، دار المشرق، بيروت 1990، الطبعة الثالثة، ص 233.
  • المرجع السابق
  • Crépon (Pierre), Les Evangiles Apocryphes, Retz, 1989, pp. 21-22
  • “الناصريون” نسبة إلى “الناصري” أي المسيح، التي ربّما صارت “النصارى” القرآنية بحسب ربّاط (إدمون)L’Orient chrétien à la veille de l’islam, Publications de l’Université Libanaise, Beyrouth, 1989, p.109.
  • ورد ذكر هذا الكتاب في لائحة الكتب الممنوعة التي أصدرها البابا جلاسيوس (السنة 492)، وهو بالتأكيد غير إنجيل برنابا الذي ظهرت ترجمته إلى العربية في مصر عن مطبعة المنار، 1908، ولنا عودة إلى هذا الإنجيل بدراسة مفصّلة على صفحات”النور”
  • كيزيتش ( ف)، المسيح في الأناجيل، منشورات النور، بيروت 1981، ص 125.
  • نجد صدى لهذه القصة في القرآن حيث يقول: ﴿إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلّم الناس في المهد وكهلاً وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني … ﴾ (المائدة 110، انظر أيضاً آل عمران، 49). الجدير ذكره أن فعل الخلق الذي لا تجوز نسبته في القرآن إلّا إلى الله وحده، نجده هنا منسوباً إلى عيسى لكن بإذن الله.
  • ربما يأتي رفض القرآن لحادثة صلب المسيح من أوساط غنوصية، بالذات مظهرية، تواجدت في الجزيرة العربية. يقول القرآن في هذا الموضوع: ﴿وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلّا إتّباع الظن وما قتلوه يقيناً ﴾ (النساء، 157).
  • Daniélou (Jean) Théologie du Judeo-Christianisme édition, Desclée\ Cerf, Paris, 1991, p 329
  • المرجع السابق
  • كيزيتش، المرجع السابق، ص 58.
  • دانييلو، المرجع السابق، ص 51.
  • المرجع السابق، ص 51-52.
  • المرجع السابق، ص 53.
  • رحمة (الأب جورج)، إيريناوس أسقف مدينة ليون، منشورات المركز الرعوي للأبحاث والدراسات، بيروت، 1992، ص 105

 

 

مجلة النور، العدد الرابع 1995، ص 173-178

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share