إنجيل برنابا

الأب جورج مسّوح Monday July 31, 1995 343

منذ ظهور الترجمة العربية، في سنة 1908، لما يسمّى بـ “بإنجيل برنابا”1، حتى اليوم، إعتبر الكثيرون2  أن هذا هو الإنجيل الحقيقي الذي أنزله الله على السيّد المسيح، أمّا الأناجيل الأربعة القانونية فهي أناجيل مزوّرة أو محرَّفة … فما هي حقيقة هذا الإنجيل؟ وحقيقة نسبته إلى الرسول برنابا؟!!

أقدم مخطوطة لإنجيل برنابا موجودة باللغة الإيطالية في مكتبة بلاط فيينا، وهي ترقى إلى نهاية القرن السادس عشر، والدليل على ذلك نوعية الورق3 والحبر والخط. أمّا الأسلوب الإنشائي فهو الأسلوب الذي شاع بعد دانته (1265- 1321)، لهذا يردّ بعض الدارسين كتابة هذا الإنجيل إلى فترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر.

يعتقد لويجي تشيريللو4 أنه لَمن المرجّح أن يكون كاتب هذا الإنجيل قد اعتمد على نصٍّ قديم لإنجيل برنابا ذي الطابع المسيحي المتهوّد وأضاف عليه العناصر الإسلامية من ذكر اسم محمد وبعض التعابير الأخرى. هذه الفرضيّة تحتاج إلى برهان مقنع، خصوصاً لجهة عدم وجود نسخة للإنجيل الأصلي الذي بنى عليه كاتب إنجيل برنابا إنجيله موضوع دراستنا.

قبل ظهور النسخة الإيطالية لإنجيل برنابا، لم يرد في المؤلّفات المسيحية أيّ ذكر لهذا الإنجيل إلّا في لائحة كتبٍ منسوبة إلى البابا جيلاسيوس (القرن السادس)، يحرّم فيها مطالعة بعض الكتب، ومنها إنجيل برنابا المنحول. لا شيء يؤكّد أن الإنجيل المذكور في هذه اللائحة هو ذاته الإنجيل الذي نعرفه اليوم. أمّا بالنسبة إلى الجدل القائم بين العلماء في ما إذا كان هذا الإنجيل قد كُتب بالعربية ثم تُرجم في ما بعد إلى الإيطالية، فالمستشرقان نلّينو وجويدي يجزمان على أن النصّ الأيطالي غير مترجم عن العربية، بل هو أصلي، لأنه لا يحمل سمة الترجمة، وليس فيه من التعابير التي يشتمّ منها رائحة الترجمة، كما تزخر بها ترجمات القرون الوسطى عن العربية أو غيرها إلى الإيطاليّة5. وما يدفعنا أيضاً إلى استبعاد وجود نسخة عربية سابقة للنسخة الإيطالية هو عدم ذكر هذا الإنجيل في فهارس الكتب القديمة عند العرب أو الأعاجم الذين وضعوا فهارس لأندر الكتب العربية6.

يحتوي هذا الإنجيل على الكثير من الأمور التي تدعونا إلى القول بأنه قد أُلِّف في القرون الوسطى، وليس في القرن الأوّل حين عاش الكاتب المنسوب إليه تدوين الكتاب، منها قصة اليوبيل المئوي الوارد ذكره في الفصل الثاني والثمانين الذي ينسب إلى يسوع القول: “إني حقّاً أُرسلت إلى بيت إسرائيل نبيّ خلاص ولكن سيأتي بعدي مسيّا7 المرسل من الله لكلّ العالم الذي لأجله خلق الله العالم وحينئذ يُسجد لله في كلّ العالم وتُنال الرحمة حتّى أن سنة اليوبيل التي تجيء الآن كلّ مئة سنة سيجعلها مسيّا كلّ سنة في كل مكان”. الجدير ذكره أن أوّل من احتفل بهذا اليوبيل المئوي البابا بونيفاتيوس الثامن سنة 1300 وقال بلزوم تكراره في كلّ مطلع قرن جديد8.

كثرة الأخطاء التاريخية والجغرافية تدفعنا إلى القول إن كاتب هذا الإنجيل لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالرسول برنابا العارف جيّداً التاريخ اليهودي والجغرافية الفلسطينية. ودونكم بعض الأمثلة9:

أ- يرد في الفصل الخامس والأربعين بعد المئة من إنجيل برنابا هذا القول: “لعمر الله لقد كان في زمن إيليّا خليل الله ونبيّه اثنا عشر جبلاً يقطنها سبعة عشر ألف فرّيسي”، وفي الفصل الثامن والأربعين بعد المئة: “لأنه ذبح في زمن إيليّا نفسه، في سنة واحدة، عشرة آلاف نبيّ ونيف، من الفرّيسيين الحقيقيين”. لا بدّ من القول بأن عارفاً بالتاريخ اليهودي، كالرسول برنابا، لا يقول عن الفرّيسيين الذين بدأت حركتهم بعد الجلاء البابلي، وتبلورت حزباً دينيّاً قوميّاً في القرن الثاني قبل الميلاد، بأنهم كانوا معاصرين لإيليّا الذي عاش في القرن التاسع قبل المسيح.

ب- يرد في الفصل الثاني والخمسين بعد المئة: “ففي الحال تدحرجت الجنود من الهيكل كما يدحرج المرء براميل من خشب غُسلت لتملأ ثانية خَمراً”. الجدير ذكره أن يهود فلسطين والشرقيين عموماً كانوا يضعون الخمر في خوابٍ من فخّار لا في براميل من خشب.

ج- يرد في الفصل الثالث والستين: “فحاول (يونان) الهرب إلى طرسوس خوفاً من الشعب فطرحه الله في البحر فابتلعته سمكة وقذفته على مقربة من نينوى”. يوحي هذا النصّ بأن نينوى تقع قريباً من شاطئ البحر المتوسّط، بينما هي في بلاد ما بين النهرين!! أمّا الناصرة فتقع بالنسبة إلى مؤلّف الإنجيل على شاطئ البحر (الفصل العشرون)، وهذا غلط لا يقع فيه يهوديّ سكن فلسطين كبرنابا الرسول.

هذا الإنجيل، الذي اعتبرته غالبية المسلمين أنه الإنجيل الحقيقي ليسوع المسيح، يناقض الكثير ممّا ورد في القرآن كتاب المسلمين. أولى هذه التناقضات وأهمّها هي تأكيد إنجيل برنابا أن يسوع ليس هو المسيح، إنمّا محمّد هو المسيح. فقد ورد في الفصل السادس والتسعين من إنجيل برنابا على لسان يسوع أنه قال: “لعمر الله الذي تقف بحضرته نفسي أني لست مسيّا الذي تنتظره كلّ قبائل الأرض”، وأنه قال: “إن اسم مسيّا عجيب … إن اسمه المبارك محمّد” (الفصل 97). بينما نجد أن القرآن يؤكّد أن عيسى10 هو وحده المسيح، وذلك عندما يقول: ﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ﴾ (آل عمران، 45)11. ولا نجد مطلقاً في القرآن أيّة إشارة إلى كون محمّد هو المسيح.

الملاحظ أن إنجيل برنابا لا يذكر البتّة يوحنّا المعمدان، وهو الذي هيّأ رسالة يسوع كما ورد في الأناجيل الأربعة وفي القرآن. ففي الأناجيل الإزائية وفي إنجيل يوحنّا نجد أن يوحنّا يهيئ الطريق لمن سيأتي بعده، للمسيح حمل الله ونور العالم. أمّا القرآن فيذكر أن يحيى12 سيبشّر ويصدّق بالمسيح: ﴿ فنادته13 الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب أن الله يبشّرك بيحيى مصدِّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ﴾ (آل عمران ، 39)، المقصود ﺑ “الكلمة” في الآية هو، بلا شك، المسيح عيسى ابن مريم14. تُجمع، إذاً، الأناجيل القانونية والقرآن على القول بأن يوحنّا (يحيى) يسبق يسوع (عيسى) ليبشّر به ويهيّىء الطريق قدّامه.

في إنجيل برنابا محمّد هو المسيح وأمّا السابق الذي يبشّر بالمسيح فهو يسوع. ورد في الفصل الثاني والأربعين من الإنجيل المذكور على لسان يسوع أنه قال: “أنا صوت صارخ في اليهوديّة كلّها يصرخ أعدّوا طريق رسول الربّ كما هو مكتوب في أشعيا … إن الآيات التي يفعلها الله على يدي تُظهر إني أتكلّم بما يريد الله ولست أحسب نفسي نظير الذي تقولون عنه لأنّي لست أهلاً أن أحلّ رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله الذي تسمّونه مسيّا الذي خُلق قبلي وسيأتي بعدي وسيأتي بكلام الحقّ ولا يكون لدينه نهاية”. وفي مكان آخر يورد إنجيل برنابا عن يسوع أنه قال: “وقد جاء الأنبياء كلّهم إلّا رسول الله الذي سيأتي بعدي لأن الله يريد ذلك حتّى أهيّئ طريقه” (الفصل السادس والثلاثون). أمّا القول الأخير الذي ينسبه إنجيل برنابا إلى يسوع، والذي يدعو إلى التعجّب فهو التالي: “يا محمّد ليكن الله معك وليجعلني أهلاً أن أحلّ سير حذائك لأني إذا نلت هذا صرت نبيّاً عظيماً وقدّوس الله” (الفصل الرابع والأربعون). يختلف، إذاً، إنجيل برنابا عن الأناجيل القانونية وعن القرآن ليس فقط في تحديد من هو المسيح، بل أيضاً في تحديد من هو السابق للمسيح. لهذا، يغفل مؤلّف إنجيل برنابا عن ذكر يحيى المعمدان لكي يوهم قارئه أن يسوع ليس سوى السابق لمجيء المسيح الذي، بالنسبة إليه، ليس سوى محمّد.

ممّا لا شكّ فيه أنّ إنجيل برنابا يناقض ليس الأناجيل الأربعة فحسب بل القرآن أيضاً. لهذا لا يستطيع بعض المسلمين أن يقولوا إن إنجيل برنابا هو الإنجيل الحقيقيّ، لمجرّد أن اسم محمّد النبيّ العربيّ مذكور فيه، لأن هذا الإنجيل يعرض عقائد وتعاليم تخالف ما يؤكّده القرآن من ثوابت منزلة من عند الله.

تجمع الدراسات على القول بعدم صحّة نسبة هذا الإنجيل إلى الرسول برنابا أو إلى معاصر له، ذلك أنه لَمِنَ المؤكّد أن هذا الإنجيل قد أُلِّفَ بين القرن الرابع عشر والقرن السادس عشر على يد شخص مجهول، الشيء الوحيد المعروف عنه أنه أراد أن يلفّق كتاباً جديداً يدعو فيه الغربيين إلى الدخول في دين الإسلام فلم يجد إلّا اسم الرسول برنابا لينسب إليه هذا المؤلف.

 

—————

(1)      ترجمه من الإنكليزية الدكتور خليل سعاده، مطبعة المنار، القاهرة، 1908.

(2)      من آخر الكتابات التي ظهرت في شأن هذا الإنجيل مقطع في كتاب المسيح بين القرآن والإنجيل للسيّد بسام مرتضى، الصادر عن دار الحقّ، بيروت، 1994، مع تقديم لآية الله السيّد محمد حسين فضل الله. يعتبر مرتضى الإنجيلَ المذكور أنه بالحقيقة من تأليف برنابا المذكور في أعمال الرسل، فيقول: “أمّا بالنسبة لـ “برنابا” فالغريب في الأمر أنه رغم ذكره في أعمال الرسل ودعوته إلى رسالة السيّد المسيح عليه السلام لم يُعترف بإنجيله المطبوع حالياً باللغة العربية نقلاً عن الإنكليزية، من قِبَل الكنيسة البابوية ولا حتى من أيّة كنيسة أخرى في العالم من خلال رؤسائها وكهنتها، أمّا السبب في ذلك فواضح، إذ لم يُذكر في هذا الإنجيل سوى كون يسوع نبيّاً مرسَلاً من عند الله، لا إلهاً ولا ابن إله، وأنه لم يُصلب وإنمّا توفّاه الله تبارك وتعالى وظهر عليهم بعد ذلك وأظهر لهم أن الذي صُلب كان شخصاً آخر شُبِّه لهم وهو يهوذا الذي أسلمه، وأنه بشّر بظهور نبيّ من بعده اسمه “محمد” بالنصّ الصريح” (ص 65).

(3)          énigme persistante: l’Evangile de Barnabé, in. MIDEO, no 14, 1980, p. 275. Jomier (Jacques), Une

(4)      كاتب أطروحة مهمة في هذا الموضوع، صدرت تحت عنوانEvangile de Barnabé, Recherches sur la Composition et l’Origine, Beauchesne, Paris, 1977.

(5)      الأب يوسف الحدّاد، إنجيل برنابا شهادة زور على القرآن الكريم، 1964، من دون ذكر دار النشر، ص 27.

(6)      أنظر مقدّمة خليل سعاده لترجمته المذكورة أعلاه، ص (ط).

(7)      المقصود بمسّيا، هنا وفي كلّ الإستشهادات المستقاة من إنجيل برنابا، هو محمّد. يرد في مكان آخر من إنجيل برنابا على لسان يسوع أنه قال: “إن اسمه (أي اسم المسيح) المبارك: محمّد”. يتحاشى المترجم استعمال كلمة “المسيح” في ترجمته للإنجيل، ويستعمل بدلاً منها كلمة “مسيّا” التي تفيد المعنى نفسه.

(8)      أنظر مقدّمة خليل سعاده، ص (ل).

(9)      أنظر، من أجل مزيد من المعلومات عن الأمثال التي سترد، الأب يوسف الحدّاد، المرجع السابق، ص 31-33.

(10)    عيسى هو الاسم القرآني (العربي؟) ليسوع.

(11)    كثيرة هي الآيات القرآنية التي تتحدث عن عيسى المسيح، نذكر على سبيل المثال: النساء، 157 و 171؛ المائدة، 75 و78؛ التوبة، 31 …

(12)    يحيى هو الاسم القرآني (العربي؟) ليوحنّا المعمدان.

(13)    المقصود بالهاء الضمير المتصل زكريا والد يحيى.

(14)    ترجمه من الإنكليزية الدكتور خليل سعاده، مطبعة المنار، القاهرة، 1908.

 

 

 

مجلة النور، العدد الخامس 1995، ص 232-235

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share