“إن الله جميل (ورويَ الجميل) يحبّ الجمال”
حديث شريف
“الروح يهبّ حيث يشاء” (يوحنّا 3: 8) آية إنجيليّة ماذا يمكن أن توحي لمسيحيّ يحيا في العصر الحاضر؟ ماذا تعني هذه الآية لمسيحيّ يريد أن يشهد للمسيح في عصرنا المهرول مسرعًا؟ ماذا تستطيع أن تقدّم هذه الآية للمسيحيّ في زمن تزايد العصبيّات العنصريّة والقوميّة والدينيّة والمذهبيّة؟ أين يهبّ الروح؟
“الروح يهبّ حيث يشاء” تعني أنّ الروح يهبّ حيث يشاء. قد يقال إنّ هذا الشرح يشبه ما يقال عن تفسير الماء بالماء. ومع العلم أنّ غايتنا لا تكمن في تقديم دراسة كتابيّة حول هذه الآية، غير أنّ النصّ يشير إلى أنّ الكاتب أراد المقارنة بين الريح والروح ليقول إنّ الروح كالريح لا يُرى ولكّنك تسمع صوته، ولا تعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب. وهذا بناء على أنّ اللفظ عينه يُستعمل في اللغتين اليونانيّة والعبريّة للحديث عن الروح والريح.
“الروح يهبّ حيث يشاء” تعني أن لا قيود لحركة الروح. لا قيود دينيّة أو تاريخيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو عقائديّة يمكن أن تعيق الروح من أن يهبّ حيث يشاء. وهل الروح أسير ثقافة ما أو ديانة ما؟ والمسيحية على اختلاف فروعها هي إحدى الديانات، أو أنّه اسير مذهب ما؟ والمسيحيّة وحدها يتفرّع منها مئات المذاهب، أو أنّه أسير لغة ما أو عرق ما؟ أمّا في ما يخصّ العصبيّات فإنّه لمن الغباء الاعتقاد بأنّ الروح يكون مع مجموعة عنصريّة مغلقة ضدّ أخرى، أو مع حزب أو تيّار سياسيّ ضد آخر. وبالمعنى ذاته، لا يمكن منطقيًّا القول أن يكون الروح أسير العوامل التاريخية واللغويّة التي جعلت البعض يعتنق هذا الدين والبعض الآخر دينًا آخر. فيُتوارث الروح كما يُتوارث الاسم والانتماء الوطنيّ والمناطقيّ.
دعونا نتابع الأسئلة: هل يمكن لأحد أن يأسر الروح ويجعله ملكًا له؟ هل من مؤسّسة زمنيّة يمكنها الادّعاء أنّها تدير أعمال الروح، وتاليًا تقبل بعض العروض التي تأتيه وترفض البعض الآخر؟ هل من مؤسّسة زمنيّة يمكنها أن تدّعي الحصريّة لأعمال الروح؟ والحصريّة، شعار عصرنا بامتياز، تذكّر بإعلانات مجتمع الاستهلاك حول حصريّة نقل مباريات كرة القدم أو المضرب تحت رعاية هذه “الماركة” أو تلك! لا، الروح ليس “ماركة” مسجّلة في السجل التجاريّ وليس ملكًا لأحد.
“الروح يهبّ حيث يشاء” عبارة تعني ما تشير إليها بساطتها من دون تعقيد للأمور. الروح هو روح الخلق والحياة. أمّا ثمره فهو “المحبّة والفرح والسلام والأناة واللطف والصلاح والايمان والوداعة والعفاف” (غلاطية5: 22-23). وكلّ مَن يعمل من أجل تحقيق القيم والفضائل إنمّا هو مقاد من الروح ولو لم يدرِ ذلك. أجل، إنّ الإيمان ثمرة من ثمار الروح هنيئًا لمن يستطيع بلوغه، ولكنّ الإيمان ليس الثمرة الوحيدة للروح، ذلك أنّ الإيمان خاضع أيضًا للعديد من العوامل الثقافيّة والاجتماعيّة، وليس هو مجرّد تلقين عقائد وتقاليد. لذلك يعمل الروح في مَن يعطي ثماره ولو كان هناك اختلاف في الإيمان. ليس المسيحيّ وحده هو حقل للروح. المسيحيّ وغيره حقل مبارك للروح.
في عصرنا الحاليّ، الذي ندرت فيه المبادرات التي نستشفّ منها الروح وعمله، لا بدّ من البحث عن ثمار هذا الروح. إذا أنعمنا النظر في آية ثمر الروح فإنّه يمكننا اختصارها بالجمال. أن نبحث عن كلّ جمال في المخلوقات هو بحث عن الروح وثمره. فكم من غير مؤمن يدافع عن الإنسان المعذّب والمضطهد وإنسانيّته؟ أليس هذا جميلاً ويستحق التأمل قليلاً؟ كم من غير مؤمن حقّ الإنسان بالعيش بكرامة؟ أليس هذا من ثمار الروح؟ أليس هذا جميلاً؟ كم وكم من البشر غير المؤمنين يلتزمون القيم المسيحيّة والدينيّة من دون أن ينتموا إليها؟ أليس هذا من ثمر الروح؟
في عصرنا الحاضر الذي أضحى فيه المؤمنون قلّة عزيزة، أليست للروح خطّة لا يعلمها المؤمنون للوصول إلى الذين فشلت الأديان في الوصول إليهم؟ أم سنظل نعتبر أنّ الروح يعتمد على كسل المؤمنين للوصول إلى البشر كافّة؟ كلاّ، الروح لا يطلب الأذن من أحد، إنّه يعمل وسيظلّ يعمل، لأن الإنسان كان ولا يزال “ظلومًا جهولاً”.
مجلة النور، العدد الخامس 2002، 222-223