رسالة إلى عميد معهد اللاهوت

الأب جورج مسّوح Sunday October 30, 2005 181

الأب جورج مسّوح

 

تحيّة بلمنديّة،

أمّا بعد،

لم يدفعني إلى كتابة هذه الرسالة إلاّ أمران اثنان، هما: الأوّل تعيين علمانيّ في موقع المسؤوليّة عن التعليم وتنشئة اللاهوتيّين ومَن منهم يُنتخب إلى الكهنوت، والثاني ما نرجوه والعميد الجديد.

ليس بدعةً أن تُعهد عمادة اللاهوت إلى شخص علمانيّ، وبات مألوفًا في الديار الأرثوذكسيّة أن يتبوّأ كرسيَّ العمادة في بعض معاهدها علمانيٌّ ملتزم إيمان كنيسته. هنا نذكر «الأمير» قسطنطين أندرونيكوف عميد معهد القدّيس سرجيوس في باريس، والذي كان، بالإضافة إلى صفته «سفيرًا فوق العادة»، المترجم الرسميّ للجنرال ديغول وخلفائه من رؤساء الدولة الفرنسيّة. أمّا أهمّ ما حقّقه في حياته العلميّة فكتبٌ عدّة في العبادات، وترجمته الممتازة للأعمال الكاملة للفيلسوف واللاهوتيّ الروسيّ الكبير الأب سرجيوس (بولغاكوف).

لا بدّ من القول، بدءًا، إنّ شرط العمادة الأوّل، في أيّ معهد عالٍ، تحلّي العميد بالقدرة على القيادة الأكاديميّة والنزاهة العلميّة والخبرة التربويّة. ولا يختلف معهد اللاهوت عن سواه من المعاهد الجامعيّة التخصّصيّة في هذا المجال، سوى في مسألة القيادة «الروحيّة» للطلاّب التي هي مسألة محض شخصيّة. فالمعهد مسؤول عن تأمين التنشئة العلميّة، وتنظيم الصلوات اليوميّة، واحترام مواقيت الأصوام، وتوفير كلّ ما يساعد الطلاّب على العيش في جوّ من التقوى وخوف اللَّه… أمّا الإرشاد الروحيّ، أو بتعبير آخر الأبوّة الروحيّة، فهو خيار شخصيّ للطلاّب لا علاقة للمسؤولين عن المعهد به لا من قريب ولا من بعيد. وهنا لا نقصد أنّ العلمانيّ لا يحقّ له بالقيادة الروحيّة أو الإرشاد.

فلا عجب، إذًا، أن يكون عميد اللاهوت علمانيًّا. ويسعنا هنا التذكير أيضًا أنّ كنيستنا الأرثوذكسيّة لا تحصر المواهب، وبخاصّة موهبة التعليم، في طغمة واحدة من طغمات الكنيسة. فمن معلّمي كنيستنا وآبائنا مَن كانوا رهبانًا، أي علمانيّين، وسواهم شمّامسة أو كهنة أو أساقفة أو بطاركة. ومنهم مَن دافع عن تعليم الكنيسة وهو بعد علمانيّ في الدنيا. أمّا من أهمّ اللاهوتيّين الأرثوذكس المعاصرين وأكثرهم إنتاجًا فنذكر، على سبيل المثال لا الحصر، ذا القلم البديع أوليفييه كليمان.

أمّا ما نصبو إليه، في عهدكم المليء بالرجاء، فهو أن نرى أكثر فأكثر في البرامج اللاهوتيّة اهتمامًا بالعلوم الإنسانيّة. فليس اللاهوت مجرّد تلقينـات عقـائديّة أو ليتــورجيّة أو تفاسير كتابيّة أو مناوشات مع الهراطقة وأصحاب البدع أو تاريخًا أبيضَ ناصعًا، بل هو أيضًا علوم اجتماعيّة وأنتروبولوجيّة ولسانيّة وفلسفة… وأنتم ذو باع في هذا المجال، بعد خبرتكم في عمادة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة البلمند المحفوظة من الربّ. فليس من لاهوتيّ معاصر معتدّ به إلاّ إذا امتـلك معـرفة عميقة وشامـلة في بعـض هذه العـلوم.

حاشا أن نقصد عبر قولنا هذا إنّ اللاهوتيّ هو وحده العلاّمة في العلوم اللاهوتيّة، فإنْ نسينا لا ننسى المقولة الصحيحة أرثوذكسيًّا: اللاهوتيّ الحقيقيّ هو المصلّي. لكنّ الصلاة لا تعني عدم إعمال العقل والفكر، ويحضرنا هنا ما توصّلت إليه الخبرة الكنسيّة في هذا المجال، أي مصالحة القلب والعقل، وصولاً إلى تقدّم كلّ الكيان الإنسانيّ في القداسة، ولا فضل لعضو من أعضاء الجسم على آخر في مسألة الخلاص، لا القلب على العقل ولا العقل على القلب… ولا استكبار أو احتقار يكنّه المرء لأحد أعضائه على حساب الأعضاء الأخرى.

التحدّيات كثيرة لن نعدّدها كلّها، لكن تجوز الإشارة إلى حاجتنا إلى مسيحيّة تفكّر وتنطق وتعلّم وتنشر باللغة العربيّة. مكتبتنا الأرثوذكسيّة العربيّة فقيرة جدًّا قياسًا إلى ما هو موجود في لغات ليست تقليديًّا أرثوذكسيّة. خطابنا اللاهوتيّ عتق والحاجة إلى لغة جديدة لا تتنكّر لتراثنا الثري بالمعرفة والخبرة الحياتيّة، لكنّ عقم خطابنا قد ينقلب علينا ويكون سبب إدانة لنا جميعًا. هذا عدا الكلام عن مشاكل الرعاية والإدارة وما سوى ذلك من أمور لستم بالغريب عنها.

نحن جماعة نؤمن بالمواهب وتنوّعها. لذلك كلّنا رجاء في أن يقودكم الروح القدس ويرشدكم إلى ما هو خير الكنيسة الشاهدة اليوم.

أخي العزيز،

البشر كمياه النهر يعبرون، ويبقى النهر. هكذا بشر الكنيسة ينحتون الصخر ويجرفون التراب ويصبّون في اللَّه فيحيون إلى الأبد. عبر البشر وتقدّس منهم مَن جاهد الجهاد الحسن، ودامت الكنيسة بفضل الينبوع الخالد الذي لا ينضب. فاحفر ووسّع وانحت، واللَّه وليّ التوفيق.

 

مجلة النور، العدد السابع 2005، ص 352-353

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share