اللاهوت الشعري واللاهوت القماشي

الأب جورج مسوح Thursday December 15, 2005 128

الأب جورج مسوح

 

رحم اللَّه مارون عبّود، أبا مـحمّد، الذي له الفضل بتعريب اللفظ الفرنسيّ الشهير: «اللّبوس لا تصنع القسوس».

مناسبة هذا التذكير أنّه، ومنذ مدّة، يروج في أوساطنا الفكريّة الأرثوذكسيّة لاهوتٌ يسعنا تسميته باللاهوت الشَّعريّ واللاهوت القماشيّ. فمعيار التقوى يقتصر، لدى المروّجين هذين اللاهوتين الجديدَيْن القديمَيْن، على نوعيّة اللباس والشكل الخارجيّ فحسب. ويزداد المعيار الشَّعريّ والقماشيّ تشدّدًا حين يتعلّق الأمر بالكهنة.

ثمّة تعدٍّ يرتكبه الذين يدينون الناس بناءً على المظاهر. لن نتحدّث عن الكهنة الذين لم تمنعهم لبوسهم أو لحاهم عن مـحبّة المال وإهمال الرعيّة وارتكاب المعاصي والسقوط في البدع والهرطقات. أقول ذلك وأنا استغفر اللَّه، لأنّ كلّ كلمة سوء تقال عن كاهن إنّما تمسّني شخصيًّا في الصميم. ولستُ لأنساق إلى مثل هذه الإدانات.

«أذكروا مـحاسن موتاكم»، يقول المثل العربيّ. وكلّنا ترابٌ يمشي، لذلك لن نذكر سوى مـحاسن الأحياء الذين هم أَولى بالرحمة من الموتى الذين باتوا في عهدة اللَّه الأكثر رحمة ورأفة ببني البشر من البشر. وهنا نشكر للَّه، ألف شكر، أنّه لم يوكل الدينونة إلى أحد من البشر، وإلاّ لكان الوكيل أرسل كلّ مَن لا يناسبه إلى نار جهنّم.

كلّنا أكواخ من رمال سننهار يومًا. ستعود أجسادنا إلى ترابها، وتبقى أعمالنا التي يحكم عليها الربّ بعدل ومـحبّة ورحمة. «أعطني قلبك وكفى»، أي أعطني ذاتك كلّها، لا بعضًا منك. ألم يدعُ الربّ يسوع إلى عدم الاهتمام بالمظاهر حين دان الفرّيسيّين الذين «يعرِّضون عصائبهم، ويطوّلون أهدابَهم» ويهملون أهمّ ما في الشريعة: العدل والرحمة والأمانة؟ وهذه الأمور الثلاثة ليس تحقيقها مشروطًا لا باللبوس ولا بالذقون.

يقول الربّ يسوع عن الراعي الصالح إنّه يدعو كلّ واحد من خرافه باسمه، وهي تتبعه «لأنّها تعرف صوته». الرعيّة تعرف معلّمها من صوته، أي من تعليمه وافتقاده إيّاها، لا من لبوسه ولا من مظهره الخارجيّ. معيار الأرثوذكسيّة لا يكمن في الشكل الخارجيّ، بل في الأمانة لإنجيل الربّ وتعليمه بما لا يخالف وصايا الربّ وعلى رأسها المحبّة.

أثناء حصار القسطنطينيّة واشتداد القتال على أسوارها، حكي أنّ أبناء المدينة كانوا منشغلين بالجدال حول «جنس الملائكة»، أذكور هم أم أناث؟ فنسوا، في غمرة تفكّرهم في هذا السؤال العقيم، الذودَ عن مدينتهم، فسقطت بين أيدي الأتراك العثمانيّين. ونحن لا همّ لنا، والحمد للَّه، لذلك نتسلّى باللاهوت الشَّعريّ والقماشيّ ومندرجاتهما السلوكيّة والقيميّة.

«لا تدينوا لئلاّ تدانوا»، قال الربّ يسوع. فكم بالحريّ عندما تكون الدينونة قائمة على المظهر، فيتقدّم الشكل على الجوهر، ويتصدّر القماش الخارجيّ على القماشة الداخليّة حيث يتدفّأ الربّ.

 

 

مجلة النور، العدد الثامن 2005، ص 406-407

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share