مع الأصالة ضدّ التشدّد

الأب جورج مسّوح Wednesday March 15, 2006 215

التحدّيات المطروحة أمام حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة اليوم، بعد تأسيسها منذ أربع

وستّين عامًا، كثيرة، وتتكاثر يومًا إثر يوم. غير أنّ التحدّي الأكبر، في رأينا، هو كيف تشهد الحركة لسيّدها الربّ يسوع المسيح في عالم متغيّر تتصاعد فيه وتيرة عدم تصديق الناس للأديان عمومًا، ولجدوى الإيمان المسيحيّ – في مختلف تجلّياته – في مناهجهم الحياتيّة. وقد صدرت، مؤخّرًا، كتبٌ عديدة في أوروبا حاولت الإجابة عن التساؤل في مدى إمكانيّة استمرار المسيحيّة كمرجع وناظم لحياة المسيحيّين في هذا القرن الواعد الذي ما زلنا في فاتحته.

لا ريب في أنّنا نشهد حاليًّا، على الصعيد الدينيّ، صراعًا بين تيّارات عدّة تذهب من التشدّد في كلّ أنواعه إلى الانفتاح المنفلت من كلّ عقال. فبأيّ باب ينبغي أن تمرّ شهادتنا المسيحيّة الأصيلة الأمينة على الإنجيل وما تسلمّناه من القدّيسين؟ طبعًا، التشدّد والتراخي مرفوضان، لأنّهما يؤدّيان إمّا إلى الانعزال والتقوقع والاكتفاء الذاتيّ، وإمّا إلى الذوبان والاندثار وضياع الهويّة.

ما يسود العالم الراهن تصاعدٌ مَرضيّ للتطرّف الدينيّ، وليس ثمّة ديانة تخلو من المتطرّفين. وإنْ كان الأكثر بروزًا للعيان التطرّف الإسلاميّ الذي يروّج صورتَه الإعلام، فلليهوديّة متطرّفوها الذين أقلّ ما يمكن أن نقوله عنهم إنّهم يحتقرون كلّ مَن يخالفهم الاعتقاد، وللمسيحيّة متطرّفوها المنتمون إلى مشارب عدّة، لكنّ الأكثر فاعليّة بين هؤلاء هم المسيحيّون المتصهينون في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

في هذا الجوّ العالميّ المتوتّر الذي ينعكس سلبيًّا على بلادنا، وربّما له ما يماثله عندنا، ما العمل؟ لا بدّ للحركة من أن تعمل على تربية دينيّة تبتعد، في آن واحد، عن الغلوّ وعن الانفلاش، تربية دينيّة تقوم على مبدأ المعرفة والثقة بالذات. وعندما نقول تربية دينيّة لا نعني بذلك التعليم الدينيّ العقائديّ والكتابيّ والليتورجيّ والآبائيّ وحسب، بل الاطّلاع على هموم المجتمع المحيط ومشاكله، والسعي إلى إيجاد أجوبة عن التحدّيات الاجتماعيّة كي نواجهها بشجاعة وحكمة.

من مهامّ هذه التربية الدينيّة التدريب على الحوار، إذ ينبغي ألاّ نخشى الحوار، وبخاصّة إذا امتلكنا الثقة بما نحياه بالإيمان. ومن مهامّها أيضًا التدريب على قبول التعدّديّة والتنوّع واختلاف الإيديولوجيّات، والتمييز بين رفض الأفكار التي تخالف فكرنا من جهة، ومحبّة الأفراد الذين يؤمنون بها من جهة أخرى. ينبغي للحركة، على هذا الصعيد، أن تعدّ جيلاً جديدًا قادرًا على استيعاب إيمان الكنيسة، وقادرًا، في الآن عينه، على استنباط أجوبة عصريّة عن تحدّيات عصريّة تواجهه وأترابه.

من هنا، يأتي الحديث عن الانفتاح الأصيل المتجذّر في الإيمان الذي لا يخشى من مواجهة الآخر، أي من اللقاء به وجهًا لوجه، كي نقول كلمتنا بلا تردّد وبلا مساومات. فالوردة تزداد أوراقها انفتاحًا ويزداد أريجها ما دام جزعها منغرسًا في الأرض، وتفقد نضارتها وعبيرها عندما تُقلع من ترابها. هكذا الشاهد لربّه يزيده تمسّكه بالإيمان انفتاحًا كي يبشّر ويبثّ جمال ما يملكه حيث ينبغي وحيث يسعه ذلك. في مفهومنا هذا للانفتاح، يكون الأكثر تجذّرًا هو الأكثر انفتاحًا، والأكثر انفتاحًا هو الأكثر تجذّرًا.

لا تمرّ الشهادة المسيحيّة عبر التشدّد ولا عبر أنواع من التلفيق الكاذب. فليس التشدّد بابًا لا بدّ منه للأمينين لتعاليم الربّ يسوع، وليس الانفتاح الأصيل استهتارًا بهذه التعاليم. أن نكون أمينين للأصالة لا يعني البتّة أن نكون متشدّدين ومتطرّفين. وقد تفادينا، هنا، استعمال تعبير «أصوليّين» كي لا يساء فهمنا. لذلك، على الحركة، إذا أرادت الشهادة لربّها، أن تسعى إلى الحوار الصادق والتواصل الجدّيّ مع الآخرين المختلفين. يسوع المسيح من هنا أيضًا يمرّ.l

 

 

مجلة النور، العدد الثاني 2006، ص 70-71

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share