يا يسوع ابن مريم، في حديثنا معك اليوم نريد استعارة عبارة قالها أحد تلاميذك لصاحبه حين أخبره عنك ولم يصدق الثاني الخبر، فتحدّاه الأوّل قائلاً: “تعالَ فانظر”، عساه يؤمن بعد أن يراك تجول المدن والقرى معلّمًا وشافيًا ومعزّيًا. ونحن نقول لك في عيد ميلادك: تعالَ فانظر كيف أضحت حال المسمّين على اسمك في الأرض التي شهدت ميلادك.
لن نلفت انتباهك إلى تدهور أعداد المسيحيّين المشرقيّين، فأنتَ أدرى بالأسباب التي تدفعهم إلى هجرة ديارهم. ولكنّك ما أعطيت يومًا أهمّيّة للأرقام ولا للحشود، وأنت القائل “لا تخف أيّها القطيع الصغير”. قلتَ القطيع لا بالمعنى المبتذل الذي يعهده العالم، إذ قلبت المفاهيم والمعايير كلّها. فالراعي يربّي القطيع ويسمنه ليبيعه أو ليذبحه. بينما أنت، راعيًا، رضيت بالذبح من أجل حياة قطيعك.
واليوم، ونحن على مشارف عيد ميلادك، يطالب المسيحيّون بحقوقهم المهدورة. وبما أنّك سيّدهم، فمن الواجب أن تكون حقوقهم هي ذاتها حقوقك. ولكن شتّان بين الأمرين. فلو كانت حقوقهم مطابقة لحقوقك، لكانوا طالبوا بدولة عادلة لا تميّز بين المواطنين على أساس طائفيّ. فأنت عملت، أوّل ما عملت، على احتقار الانتماء القوميّ-الدينيّ الضيّق لأبناء قومك من اليهود، فحاولت إخراجهم من شرنقتهم، فقتلوك ولم يرعووا. أليست مطالبة مسيحيّيك بحقوق الطائفة نوعًا من أنواع العودة إلى اليهوديّة العنصريّة والتمييزيّة؟ أليست هذه المطالبة نوعًا من أنواع الانتقام اليهوديّ منك ومن ثورتك عليهم؟
لو كانت حقوق المسيحيّين هي ذاتها حقوقك، لكانوا طالبوا بدولة عادلة تتوافر فيها قواعد التكافل الاجتماعيّ من تأمين الخبز والكهرباء والمازوت وحاجيّات الدنيا، ولكن أيضًا التعليم المجّانيّ والضمان الصحّيّ للجميع وضمان الشيخوخة، والمساواة بين اللبنانيّين كافّة، حيث تنعدم هذه المساواة بين أبناء الطوائف، وبين الذكر والأنثى، ولكن أيضًا بين اللبنانيّ وغير اللبنانيّ، لا سيّما العاملات الآسيويّات والإفريقيّات المستعبدات في المنازل. لقد صرتَ عبدًا كي تبطل العبوديّة والاسترقاق، ولكن يبدو أنّ هذا لم يثمر بعد، حتّى لدى مَن ينتمي إليك.
لو كانت حقوق المسيحيّين هي ذاتها حقوقك، لكانت هي ذاتها حقوق المسلمين واللامنتمين دينيًّا والملحدين وكلّ مواطن من المواطنين. أليست حقوقك هي، كما قلت في طوباويّاتك، حقوق الفقراء والمساكين والودعاء والحزانى والجياع والعطاش إلى البرّ والرحماء وأطهار القلوب والساعين إلى السلام والمضطهَدين؟ أليس كلّ هؤلاء نجدهم بين أبناء البشر كافّة على اختلاف انتماءاتهم؟
همّ المسيحيّين وقادتهم السياسيّين وغير السياسيّين بات في مكان آخر. بات همّهم في توفير الفرص لتحسين حقوق المسيحيّين في السلطة التي احتقرتها أنت أيّما احتقار. ألم تسخر أيّها “الملك الداخل إلى أورشليم” من الملوك حين ركبت على جحش فيما سمة الملوك امتطاء الخيول؟ ألم تعلن لتلاميذك: “ملوك الأمم يسودونهم، أمّا أنتم فلستم كذلك ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر والذي يتقدّم كالذي يخدم”؟
بات العيد لا يمتّ إليك بأيّ صلة. رجاء المسيحيّين بات في مكان آخر. لستَ أنت الملك عليهم. ألم يصرخ الذين أيّدوا صلبك أمام بيلاطس ألذي أشفق عليك: “ليس علينا ملك غير قيصر”؟ نعم، فضّلوا قيصر روما عليك. فضّلوا الطاغية في سبيل التخلّص منك. فأنت تشكّل على البشر خطرًا أكثر من الطاغية، لأنّك تدعو إلى التخلّي عن الاستعباد للدنيويّات وبهارجها، تدعو إلى قبول الصليب والمحبّة والبذل والتضحية وبغض المال والسلطة. أليس هذا رفعًا لسقف مطالبك وتعجيزًا لا طاقة للمسيحيّين بالشروع بها؟
ما أردنا أن نصنع معك جردة حساب. لكنّك ولدت، منذ حوالى ألفي عام، في مذود حقير يحيط بك، بالإضافة إلى مريم ويوسف، ثور وحمار. تعال فانظر، في عيدك، عدد المريمات واليوسفات الحقيقيّين ممّن يحيطون بك في ميلادك هذه الأيّام.
جريدة “النهار” 23 كانون الأول 2007