وثيقة إسلاميّة جريئة في وجه التكفير

الأب جورج مسوح Sunday December 30, 2007 125

الرسالة المفتوحة التي وجّهتها 138 شخصيّة من العلماء المسلمين إلى البابا بنديكتُس السادس عشر ورؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة و”قادة الكنائس المسيحيّة في كلّ مكان” رسالة مقدامة في انفتاحها، على العكس ممّا هو سائد في الخطاب الدينيّ الراهن حيث يهيمن التكفير والتشدّد والتطرّف. وتحمل الرسالة دعوة إلى تلاقي المسلمين والمسيحيّين على الأسس المشتركة بينهم، تلك الأسس التي يمكن إيجازها بوصيّتين اثنتين: “حبّ الإله الواحد وحبّ الجار”.

أهمّيّة هذه الرسالة-الوثيقة الإسلاميّة تكمن في كونها الأولى من نوعها على الصعيد العقائديّ، إذ تتضمّن اعترافًا صريحًا بوحدانيّة الإيمان المسيحيّ: “فوحدانيّة الله، وضرورة حبّه تعالى، وضرورة محبّة الجار، تعتبر بالنتيجة الأرضيّة المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة”. لا يخفى علينا أنّ هذا القول قد ورد سابقًا، بصيغة أو بأخرى، في مؤلّفات بعض العلماء المسلمين الذين اعتنوا بالتفكّر بحال الأديان الأخرى. غير أنّ الجديد في هذا الشأن هو وروده في وثيقة جماعيّة، ممّا يشكّل مصداقيّة أكبر في التعامل معها، ويطرح تحدّيًا أمام المسيحيّين للارتقاء بمستوى كلامهم اللاهوتيّ في ما يخصّ الأديان الأخرى، ولا سيّما الإسلام.

قلنا إنّ هذه الوثيقة الإسلاميّة جريئة على المستوى اللاهوتيّ، ذلك أنّ الخطاب المسيحيّ اقتصر على الاعتراف بإيمان المسلمين التوحيديّ من دون الوصول إلى الحديث عن الإسلام كدين توحيديّ. وشتّان ما بين الأمرين. فوثيقة المجمع الفاتيكانيّ الثاني التي خرقت، منذ أربعين عامًا ونيّف، الكثير من المحرّمات اللاهوتيّة لم تتجاوز في نصّها الاعتراف بتوحيد المسلمين إلى حدّ الاعتراف بالإسلام دينًا توحيديًّا. بينما نصّ الوثيقة الإسلاميّة يتحدّث عن المسيحيّة بكلّ ألوانها مقرًّا إيمانها بوحدانيّة الله. هنا مكمن التحدّي اللاهوتيّ.

أمّا في مسألة حبّ الجار، أو “محبّة القريب” باللسان المسيحيّ، فتجعل الوثيقة استتباب السلام في العالم قائمًا على السلام بين المسلمين والمسيحيّين الذين يشكّلون معًا ما يوازي “55 بالمائة من عدد سكّان العالم”. لكنّ المشكلة ليست بين مسلمين ومسيحيّين بقدر ما هي مشكلة بين مَن يستعمل الإسلام والمسيحيّة في سبيل تبرير الحروب والنزاعات بين الأمم والشعوب، أو تبرير الحروب الداخليّة ذات الطابع الطائفيّ أو المذهبيّ. وتتساوى في ذلك الأنظمة التي تعتمد الديمقراطيّة، كالولايات المتّحدة الأميركيّة، والأنظمة الديكتاتوريّة في العالم العربيّ والإسلاميّ. ليست المشكلة بين مسلمين ومسيحيّين بقدر ما هي مشكلة أغنياء يطمعون بثروات بلاد الفقراء فيتحالفون مع أنظمتها الفاسدة في سبيل نهب الأرض التي تدرّ اللبن والعسل والنفط أيضًا. تحالف المسيحيّين والمسلمين يجد معناه أكثر ما يجده في تحالف الفقراء لمقاومة الجشع العالميّ.

من هنا ضرورة أن تنفتح الوثيقة على البعد الإنسانيّ الشامل الذي يتجاوز العلاقة بين المسلمين والمسيحيّين ليصل إلى البحث عن الخير في كلّ أصقاع الدنيا. فغاندي، المجاهد في سبيل السلام والمدافع عن حقوق الفقراء والمستضعفين، نموذج يحتذى ليس فقط في الهندوسيّة بل في المسيحيّة والإسلام، حيث يسعنا إدراجه بين أصفياء الله وأبرار المسيحيّة وأولياء الإسلام. وإن ذكرنا المنتمين إلى الأديان الأخرى، فإنّنا لا نريد إغفال اللامنتمين دينيًّا من ذوي النوايا الحسنة ممّن يجاهدون في سبيل عالم أفضل يسوده السلام والمحبّة والعدالة. وفي هذا السياق لا بدّ من الإشادة بذكر الوثيقة مسألة “التنافس” على استباق الخيرات التي وعد الله بها المؤمنين. لكن أليس بين غير المؤمنين مَن يسعى لاستباق الخيرات الإلهيّة؟

هذه الوثيقة الإسلاميّة التي وقّعها ثلاث شخصيّات لبنانيّة، محمّد السمّاك والسيّد هاني فحص وهشام نشّابة، نرجو أن يتبنّاها كلّ المسلمين. وهذا يعني ألاّ تبقى خطابًا نخبويًّا، بل أن تكون حافزًا لتغيير الذهنيّة التكفيريّة السائدة في المنابر ووسائل الإعلام. لذلك ننتظر أن تتبنّاها الدول الإسلاميّة فتدخلها في مناهج التعليم والتربية الدينيّة في المعاهد والمدارس والمؤسّسات، لإنشاء جيل جديد مختلف.

جريدة “النهار” 30 كانون الأول 2007

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share