قمّة روحيّة جديدة انعقدت وخرج عنها بيان يعيد التأكيد على الثوابت الوطنيّة، ويدعو اللبنانيّين إلى التزام المحافظة على السلم الأهليّ والعيش الوطنيّ الواحد، وإلى احترام التنوّع والحوار. هو بيان يحوز إجماع اللبنانيّين عليه راجين أن يتحقّق في المستقبل القريب قبل أن تدهمهم الويلات والمصائب. لكنّ هذا البيان هو بيان الحدّ الأدنى الذي لا يثير حفيظة أحد ولا يحدث أيّ مشكلة مع أيّ فصيل من الفصائل اللبنانيّة.
وكون بيان القمّة بقي في الكلام على العموميّات فذلك يعني أنّ الخلل ما زال يعتري العلاقات بين الطوائف والمذاهب الممسوكة من زعمائها السياسيّين. وليس الخلل في القمّة الروحيّة التي لا تستطيع اجتراح العجائب مع كلّ ارتباطات الفئات اللبنانيّة بالخارج القريب والبعيد على السواء. فالقادة الروحيّون لا يملكون السلطة، حتّى الروحيّة، على مَن بيده الأمر والقدرة على الإطاحة بكلّ مقرّرات القمّة. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ البعض منهم يخضع كلّيًّا للسلطة السياسيّة المهيمنة على طائفته أو على مذهبه، فكيف يقدر أن يقف في وجهها إن رأى فيها اعوجاجًا؟
ثمّ يدين البيان “التطرّف والعنف في مختلف أشكاله”. ليس في ذلك أمر جديد، فهذه الإدانة نقرأها في كلّ البيانات الصادرة عند احتدام المعارك، حتّى لدى المتحاربين. لقد كنّا نأمل من القمّة الروحيّة الذهاب أبعد من تعبير الإدانة إلى حدّ تكفير أو إلقاء الحرم في وجه كلّ مَن يلجأ، باسم الدين، إلى العنف لبتّ الخلافات بين اللبنانيّين. أمّا بشأن التطرّف فيجب ألاّ يكتفى بالإدانة، بل العمل على عدم بثّ التصريحات الناريّة التي يطلقها رجال الدين على المنابر حين يُطلب منهم ذلك خدمةً لمآرب زعيم الطائفة. المطلوب إذًا التعاهد على عدم انجرارهم إلى المواقف الانفعاليّة، بل التحلّي بالصبر والتناصح بالحقّ.
من هنا، لا تقع المسؤوليّة في “التحريض المذهبيّ والطائفيّ” على الإعلام أو على المسؤولين السياسيّين والحزبيّين وحدهم، وكأنّ رجال الدين في منأى عن المسؤوليّة. فلكي تنجح الفتنة ينبغي ظهور قادة دينيّين يخطبون في جماعاتهم لتهييجهم وحضّهم على حمل السلاح والذود عن شرف الطائفة وبطلها المفدّى. كان يجدر بالقمّة عوض مناشدة وسائل الإعلام على ضبط ذاتها أن تحرّم على رجال الدين، في أوقات الفتن، الظهور في النشرات الأخباريّة وفي البرامج السياسيّة التي لا همّ لها سوى ملء ساعات من الهواء باستضافة مثيري الشقاق المذهبيّ والفرقة الطائفيّة بين اللبنانيّين.
القمّة الروحيّة قالت كلامًا زكيًّا يتضمّن الكثير من الوعظ الحسن. لكنّ هذا الوعظ كي يثمر ثمرًا طيّبًا ينبغي له أن يقترن بآليّة فاعلة تجعله يتحقّق في النفوس وفي الواقع اللبنانيّ. من هنا أهمّيّة تفعيل دور “اللجنة الوطنيّة للحوار الإسلاميّ المسيحيّ في لبنان” ألتي أنشأتها القمّة الروحيّة عام 1993. فهذه اللجنة توصّلت بعد عام على تأسيسها إلى إقرار “ورقة عمل” موحّدة تضمّنت العديد من النقاط التي يمكن أن تساعد على تنشيط التقارب بين اللبنانيّين. ومن أبرز هذه النقاط التي تمّ التعامل معها بخفر شديد “إطلاق حوار دائم بين الدولة والمواطنين وبين اللبنانيّين أنفسهم عبر تنظيم ندوات وعقد مؤتمرات مشتركة”.
مع إعادة الحياة إلى “ورقة العمل” التي يوجد فيها بعض الثغرات، ينبغي للجنة الوطنيّة بهدي القادة الروحيّين أن تعمل على تفعيل الحوار في ميادين عدّة، ولا سيّما على الصعيد الشبابيّ. فالتربية هي الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه الجيل الجديد. لذلك تنشأ الضرورة لترسيخ ثقافة الحوار في المدارس والجامعات، وأغلبها دينيّ الطابع، عبر تربية مدنيّة وتربية دينيّة تحترم الآخر، وتؤسّس لمعرفة جيّدة عن الذات وعن الآخر في آن واحد. عدا ذلك ستبقى مقرّرات القمّة حبرًا على ورق.
جريدة “النهار” 29 حزيران 2008