انتخاب المطران نصّور راعيًا لها أبرشيّة عكّار الواحدة تؤكّد وحدة أنطاكية

الأب جورج مسّوح Sunday June 22, 2008 113

على الرغم من أفول نجم مدينة أنطاكية، ما زال اسمها يظهر في لقب جميع بطاركة المشرق. وليس ذلك من أجل حنين إلى أرض مفقودة أو إلى أرض موعودة، بل من أجل تأكيد وحدة المسيحيّين القاطنين على امتداد الأرض التاريخيّة لأنطاكية “مدينة الله العظمى” كما أحبّ أن يكلّل المؤرّخ الكبير أسد رستم عنوان كتابه المرجع عن تاريخ هذه الكنيسة. ومع نشوء الأوطان الحديثة في القرن العشرين أبقى رجال الكنيسة على جغرافيّتها السابقة، فلم ينتج من الحدود الوطنيّة الجديدة تعديل في حدود الأبرشيّات الموجودة. لقد آمن هؤلاء بأنّ الكنيسة، كسيّدها المسيح، عابرة للحدود وللأوطان.

وأبرز مثال على ذلك أبرشيّة عكّار الأرثوذكسيّة التي ودّعت راعيها السابق المثلّث الرحمات المطران بولس بندلي، وتستقبل راعيها الجديد المطران باسيليوس نصّور. فأبرشيّة عكّار تجسّد وحدة المسيحيّين الأنطاكيّين، اللبنانيّين والسوريّين، إذ تمتدّ حدودها من طرطوس وصافيتا ووادي النصارى في سوريا إلى حلبا وسواها من قرى عكّار بقسميها اللبنانيّ والسوريّ. ويفوق عدد السوريّين من أبناء هذه الأبرشيّة عدد اللبنانيّين. كما تضمّ هذه الأبرشيّة أحد أكبر أديار الكرسيّ الأنطاكيّ، دير القدّيس جاورجيوس الحميراء البطريركيّ، الذي أضحى محجّة للمؤمنين، مسيحيّين ومسلمين، من كلّ أنحاء سوريا ولبنان.

وحدة عكّار الكنسيّة بقسميها اللبنانيّ والسوريّ لا تتنافى ولا تتناقض مع الوحدة الوطنيّة القائمة بين أبناء الكنيسة العكّاريّة السوريّين وسائر السوريّين من جهة، ولا مع الوحدة الوطنيّة القائمة بين أبناء الكنيسة العكّاريّة اللبنانيّين وسائر اللبنانيّين من جهة أخرى. فالسوريّ سوريّ، واللبنانيّ لبنانيّ، وكلّ منهما يعتزّ بهويّته الوطنيّة، لكنّهما في الوقت عينه يفاخران بالانتماء إلى كنيسة واحدة. فليس للظروف السياسيّة أو للخلافات بين الدول أن تؤثّر في وحدة الكنيسة القائمة على الإيمان. وهذا لا يعني إطلاقًا أنّ الوحدة بين أبناء الأبرشيّة العكّاريّة هي وحدة إيمانيّة وحسب، بل ثمّة تاريخ مشترك وأنساب ومصاهرات كثيرة بين ضفّتَي النهر الكبير الجنوبيّ. ومن دلائل وحدة الحال هذه لجوء أهل عكّار اللبنانيّين إلى قرى وادي النصارى مع بداية الحرب عام 1975.

حسنًا فعل المجمع الأنطاكيّ المقدّس بإبقائه على وحدة الكرسيّ العكّاريّ وسيادته على كامل أراضي عكّار التاريخيّة. صحيح أنّ قادة الكنيسة الأنطاكيّة لم يفكّروا يومًا في شؤونهم الكنسيّة لكونهم ينتمون إلى قوميّتين مختلفتين متقوقعتين، فثمّة مطارنة لبنانيّون ترأسوا أبرشيّات سوريّة كحلب وحماة وحمص، والعكس أيضًا. غير أنّنا اليوم كنّا بحاجة ماسّة إلى التأكيد على عدم تأثير الأوضاع السياسيّة على وحدة الكرسيّ الأنطاكيّ الموجود في دمشق والذي جلس عليه لبنانيّون وسوريّون على السواء. وحدة عكّار الكنسيّة اليوم هي رمز لوحدة أنطاكيّة وشهادتها في المشرق العربيّ.

***

المطران الجديد ليس طارئًا على أبرشيّة عكّار، فقد خدم الجزء الساحليّ من القسم السوريّ الممتدّ من طرطوس إلى صافيتا أسقفًا مساعدًا للمطران الراحل. ويعرف جيّدًا هموم أبناء المنطقة ومشاكلهم، وبخاصّة أنّه أتى من عائلة فقيرة كعموم أبناء تلك المنطقة المزارعين في غالبيّتهم. هو يحمل اسم القدّيس باسيليوس الكبير (+379) رئيس أساقفة قيصريّة كبادوكية، وأحد أهمّ آباء الكنيسة الشرقيّة، والذي يقول عنه العلماء الكنسيّون إنّه صورة المطران النموذجيّ من حيث جمعه بين العلم والتعليم، والرعاية وحسن الإدارة، والعمل الاجتماعيّ والاهتمام بالفقراء والمحتاجين، وبالمرضى.

لقد أخذ المطران الراحل بولس بندلي الكثير من صفات باسيليوس الكبير، وبخاصّة اهتمامه بالفقراء الذين يكاد أن لا يخلو بيت في عكّار منهم. عسى أن يبلغ المطران الجديد باسيليوس المحبّ لكنيسته وأبنائها قامة سميّه الكبير، فتزداد عكّار بهاءً وإشعاعًا وقداسةً.

 

جريدة “النهار” 22 حزيران 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share