كتاب “التعدّديّة الدينيّة” لمشير عون تحرير المسيح من الانتسابات التاريخيّة

الأب جورج مسّوح Sunday June 8, 2008 137

يعكف الباحث في الفكر الدينيّ الدكتور مشير باسيل عون في كتابه الصادر حديثًا “النور والمصابيح، التعدّديّة الدينيّة في جرأة المساءلة اللاهوتيّة المسيحيّة” (منشورات مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة في جامعة البلمند) على التمحيص في مسألة من أهمّ المسائل اللاهوتيّة التي تتحدّى الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ المعاصر، وهي مسألة التعدّديّة الدينيّة وشرعيّتها في العمارة اللاهوتيّة وفي التدبير الإلهيّ. الجدير بالذكر أنّ هذا الكتاب هو أوّل المصنّفات العلميّة العربيّة التي تناولت موضوع التعدّديّة الشائك بدراية فائقة وإحاطة شاملة من كلّ جوانبه.

ينطلق الكتاب من مبادئ عدّة أبرزها أنّ الإيمان الذاتيّ للمؤلّف لا يعفيه من ضرورة التساؤل اللاهوتيّ. “الإيمان تطلّبٌ يأبى التخدّر”، لذلك يرى الكاتب نفسه ملزمًا بالخوض في هذا “المبحث اللاهوتيّ العسير” على حدّ قوله، وعلى ما نعتقد نحن أيضًا. كما ينطلق الكتاب من كون الله سرًّا، بل هو “سرّ الأسرار، لا تدركه الأبصار، ولا تعقله الأذهان، ولا تستغرقه الألسنة. ولذلك ينبغي للأديان أن تقرّ بعجزها المطلق عن الإمساك بجوهر السرّ الإلهيّ”. هذا الإقرار بالعجز عن إدراك الله في جوهره، لا في ما كشفه عن نفسه للبشر، يفترض تواضعًا كبيرًا لدى أهل المسيحيّة في مقاربة مكانة الأديان الأخرى في تصميم الله.

وينبّه مشير عون المسيحيّين إلى وجوب الابتعاد عن منهجيّة استيعاب أهل الأديان الأخرى وإدخالهم في منظومتهم المسيحيّة. فحسنٌ أن يعترف المسيحيّون “ببذور الخير والصلاح المبثوثة في التراثات الدينيّة الأخرى”، ولكن من غير السليم أن يتمّ ضمّهم إلى جسم أيّ كنيسة من الكنائس القائمة، أو إلى جسد المسيح السرّيّ، أو إلى عيال الله… فأهل الديانات الأخرى لا يرضون بأن “يستوعبه الآخر فيبطله ويجرّده من خصوصيّته”. في الواقع، تنحو الأديان كلّها نحو “الاستيعاب والاحتواء والإكمال، فالهيمنة والاستعلاء”. وفي هذا الشأن يدعو عون إلى عدم وقوع المسيحيّة في “محنة الاستعلاء”.

من هنا، يرى الكاتب الأهمّية القصوى لتفسير مسيحيّ جديد لسرّ التجسّد الإلهيّ يتبنّى “تنوّع السبل إلى النور الإلهيّ”، من دون الانتقاص من حقيقة ما قام به يسوع المسيح. فمركزيّة المسيح في الإيمان المسيحيّ أساسيّة، ولا يمكن التغاضي عنها. وبعد أن يؤكّد الكاتب في الفصل الرابع على أنّ للمسيح في المسيحيّة وجهين: “وجه التجلّي الكامل لله، ووجه المخلّص الأوحد لبني البشر”، يدعو إلى التنبّه إلى أنّ المسيحيّة، وعلى مقتضى التجسّد، هي ديانة القبول بالتنوّع الدينيّ الذي تختبره البشريّة عبر تاريخها. لذلك يعتقد عون أنّ “الحقيقة المسيحيّة لا تكتسب لها أبعاد الشموليّة الكونيّة إلاّ لأنّها تنادي بمسيح يعتق الإنسان من نسبيّات التاريخ”.

المطلوب من المسيحيّة، إذًا، أن تميّز بين المطلق الإلهيّ الحقيقيّ الذي تجلّت صورته في شخص يسوع المسيح من جهة، وبين الخصوصيّات التاريخيّة النسبيّة، ولا سيّما “خصوصيّة يسوع التاريخيّ، وخصوصيّة الكنيسة الزمنيّة، وخصوصيّة المسعى التاريخيّ الناقص”. ويذهب مشير عون إلى الحدّ الأقصى في هذا التفكّر الجريء، فيؤكّد، في الفصل الخامس، أنّ “القول بالتجسّد هو الذي يجعل المسيحيّة دين التحرّر من جميع الانتسابات التاريخيّة”، وهذا ما سيؤدّي إلى “تحرير الدين المسيحيّ من تجربة الاستكبار والهيمنة وادّعاء الامتلاك المطلق للحقّ الإلهيّ”.

يتوسّل مشير عون حقيقة الصليب ليذكّر بأنّ المسيحيّة تقوم على الاعتراف بحقيقة الإخلاء الإلهيّ. فالفرادة المسيحيّة تقوم على فرادة الجود الإلهيّ الذاتيّ على الصليب. لذلك، لا يمكن تصوّر الألوهة في المسيح في “صورة الاقتدار والتسلّط وفرض الذات بالإكراه”، بل في “إظهار عظمة الحبّ الإلهيّ لجميع الناس في غير تمييز ولا تفرقة”. والمسيحيّة، كسيّدها، مدعوّة إلى الاقتداء بهذا الإخلاء الإلهيّ. فلا تكون فرادة المسيحيّة، حينئذ، استعلاءً، بل اتّضاعًا لا يحرم الآخرين من فرادتهم، “وأنّ الحقيقة مصهر التنقية لجميع الفرادات في منتهى الدهر”.

كتاب مشير عون، الأخ والصديق، يفكّ أسر المسيح من الانتسابات التاريخيّة لأيّ جماعة من الجماعات. المسيح أكبر من أن يكون امتيازًا حصريًّا لفئة، وإن كبرت، من الناس. هو، المتعدّد بشخصه، الذي رفض قيود اليهوديّة القوميّة، وكسر مقولة “شعب الله المختار”، هل يرضى بأن يكون رهين التاريخ بكلّ ما يشوبه من صفحات ظلاميّة مليئة بحروب أديان ومذاهب وطوائف؟

 

جريدة “النهار” 8 حزيران 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share