… ويأتيك رجل الله كمَن لا صورة له ولا جمال مما تعتبره صورة وجمالاً. لا تعرف أنّ فيه روحاً من فوق إلاّ إذا كان هذا الروح عينه فيك. لا يقدر الإنسان الطبيعي أن يتعرّف الروحي “لأنّه إنما يُحكَم فيه روحياً” (1 كو 2: 14). لذا تعبر برجل الله عبوراً عابراً إذا ما كانت قيمُك دهرية. ولعلّه يترك فيك تسآلاً، ولكن يغلب في حكمك العقلُ دون الحسّ العميق لأنّ حسّك غير نام بنعمة الله. من هنا دَرْجُ رجال الله على موافاتنا كالأطياف. يأتون ويرتحلون في غفلة عن اهتمامات أكثر الناس.
رجل الله إنسان غريب. يأتيك كغريب. يشعر، في أعماقه، كغريب عن مألوفية نمط الحياة المتعاطاة. هذا لأنّ انتماءه أولاً وأخيراً هو إلى سيِّده. ربّه قريبُه بامتياز. رغم ذلك تلقاه أقرب إليك في إحساسك ومعاناتك وحاجاتك من أي إنسان آخر عرفتَه. لا يوافق فئاتك الفكرية وتصنيفاتك. هو فئة قائمة في ذاتها. بشرياً، بإمكانك أن تنتقده بيسر. تجد فيه عيوباً جمّة. لعلّه يحلو لبعض الناس الظنّ أنّ يسوع نفسَه لو كان أقل تحدّياً وتصدياً واستفزازاً لليهود، لكان بإمكانه أن يكون راعياً أنجح وما كانوا صلبوه. هذا، في كل حال، ما يقوله الكثيرون في العديد من آباء الكنيسة في تعاملهم وأضدّادهم، أمساً واليوم. المرونة واللين والحوار، لدى مثل هؤلاء المنظّرين، خير أساليب الرعاية وأجداها. متفائلون من جهة النظرة إلى الطبيعة البشرية. لا يسلِّمون بسقوطها. كل المشكلات يُحَلّ عندهم، في المدى الأخير، بالتفاهم. لا يعرفون حقيقة النفس البشرية. لذا أوهامهم كثيرة وحساباتهم غير واقعية. أما رجل الله فيعرف أنّ مبدأين يتحكّمان بأكثر النفوس في هذا الدهر: مبدأ اللذّة ومبدأ المجد الباطل. مهما ظهر الإنسان طيِّب المعشر، حسن الكلام، مُقنعاً، فإنّ السيادة لديه في الموقف تبقى لحقيقته الداخلية المخبوءة في عمق نفسه. فلا عجب إن كان سعي رجل الله إلى اعتماد النسك مبدأً بإزاء اللذّة، والتواري وذكر الموت بإزاء المجد الباطل.
لذا يأتيك رجل الله كنبيّ. لا يمكنك أن تفهم من حقيقته شيئاً ما لم تأخذه كنبيّ. المثلّث الرحمات المتروبوليت بولس بندلي، الذي غادرنا إلى ربّه فجر الثلاثاء، الثالث من حزيران الجاري، كان في غربته وغرابته، على الكثير من النَفَس النبوي. بعض ما عمله لا يُعمَل ولا يُقبَل ولا يُفهَم بشرياً. كان متمسِّكاً، مثلاً، بتجنيز كل راقد في عكّار شخصياً، وأحياناً كان يقيم خمس خِدَم جنائزية في اليوم الواحد. سلك كأنّه في رعيّة صغيرة من خمسين بيتاً. بالنسبة للكثيرين هذا لا معنى له ولا قيمة. تضييع وقت على ما لا ينفع. أما هو فأراد أن يمرّر رسالة، بأتعابه ومحبّته، أنّ الغني والفقير سواسية عند الله. لمّا يكن يأخذ مالاً من أحد في جنّاز. وكان يتوق لأن يكون حيث شعبه لا سيما في ألمه. لامس القلوب بابتسامته المفعمة حناناً ولطفِه ووداعتِه. لم يكن يشبع من تعزية الناس، لا سيما الفقراء والمساكين كما ليُجسِّد في عيونهم القولة الإلهية: “طوبى للمساكين بالروح فإنّ لهم ملكوت السموات”. ثمّة عتب إلهي، إن لم يكن لوم وتأديب في موقف بولس، لجيل في الكنيسة يقدِّم الغنيّ على الفقير ويشيح بيسرٍ عن الفقراء والمساكين إلاّ كلاماً، وقلّما يعبأ بملامسة معاناة الثكالى والأرامل والأيتام والمضنوكين والمساكين.
قد يحلو للعديدين أن ينظّروا في شأن ما كان يمكن أن يكون أوفق للمتروبوليت بولس أن يعمله ابتغاء خدمة رعائية أجدى. لكنْ لا يليق بأبناء الله أن يناقضوا أو يتحفّظوا من جهة ما يأتيه رجل الله. رجال الله نتعلّم منهم صاغرين ولا ننتقدهم لأنّ الله فيهم أكبر من أفهامنا. غريب ما يأتونه؟ غريب ولا شك، ولكنْ إيّاه تشتهي النفس في توقها إلى حضرة يسوع. أوليس الأسقف، في كل حال، إيقونة يسوع، أو يُفترَض به أن يكون؟
رجل الله فقير بين الفقراء وغنيّ بين الأغنياء. لا هؤلاء يُعرِض عنهم ولا أولئك. يضمّ الجميع إلى صدر ربّه. لم يكن لابن الإنسان ما يسند إليه رأسه. ثمّ فقراء نحن ومع ذلك نُغْني كثيرين. صاحبنا وأبونا عاش كفقير. لم يتمسّك بشيء من حطام هذه الدنيا. وعاش كغنيّ بالرضى الإلهي الذي التزمه. فقره أغنانا بأنعام الله وغناه شدّنا إلى فقر المذود.
حتى بالحيوانات لم يتردّد أن يكون لطيفاً بلطف الله كأنّي بالبهيمة تؤدّي لرجل الله خدمة لا حقّ له فيها. إلى هذا الحدّ ذهب فقره. مرّة، في زيارة دير، لم يعد قادراً على المشي فاستُعين له بحمار، فلما بلغ المأرب قال للحمار: “لا تؤاخذني، أتعبتك!”
ورجل الله لا يعادي أحداً، لكنّه يقول الله في كل أمر. لا يسكت عن الباطل. يظنّون، لوداعته، أنّه ضعيف، ولكنْ متى أتت السانحة استبان قوياً ثابتاً قاطعاً باستقامة كلمة حقّ.
وهو كائن رجل سلام. لا فرق كبير بين وجه ووجه لديه، كلاهما جبل ثابور، وإن كان يمجّ الإثم والظلم وما لا يرضي الله.
وهو كائن رجل سلام. لا فرق كبير بين وجه ووجه لديه، كلاهما جبل ثابور، وإن كان يمجّ الإثم والظلم وما لا يرضي الله.
والخباثة ما عرفها. رجل الله لا يصطنع الذكاء، ولا يعرف الرياء. له، إلى الدماثة واللطف، براءة الأطفال وسذاجة الذين لا يعرفون. المتروبوليت بولس كان طفلاً مع الأطفال وشاباً بين الشباب وشيخاً في أوساط الشيوخ.
كان يسير كَمَن لا ثقل نوعي له. حتى الأرض أوشك أن يقبّلها استسماحاً لأنّه ثقّل عليها بسيره فيها.
المتروبوليت بولس بندلي، يا سيِّدنا من السيِّد الحقّ، لا أدري إن كنتُ أكتب رجل الله أو أكتبك. سامحني، لقد اختلط عليّ الأمر، وأعلم أنّ هذا يثقّل عليك وتطأطئ الرأس، بسببه، حياء. لكنّك الآن حيث اشتهيت أن تكون. ولنا صرت أدنى، راعياً إيّانا بألطاف ربّك وصلواتك إليه من أجلنا. غداً يُكتب بالمداد الكثير مما كتبتَه بأعراقك ودمك ولهف قلبك. فلا عَجَب! حَسْرتُنا أنّنا لم نعرفك كما يليق وغادرتنا فجأة لتصير في حضور ربّك فيك أكثر حقيقية مما كنت. ومع ذلك نفرح لأنّه صار بإمكانك أن تكون مع أحبّتك أكثر من ذي قبل. تَخدُم كلَّ واحد منهم، شخصياً،خدمة ربِّك كما اشتهيت، كأنّه السيِّد وكأنّك أنتَ له الخادم الأوحد وليس إلاّك. الآن تُعطَى نعمة من فوق لترعانا باللطف بمزيد. فلا تغفل عن شعب عكّار وأنطاكية كلّها، فإنّنا في زمن شحّ وحاجتنا أكبر إلى امتداد رعايتك لنا. فإلينا يا رجل الله وباركنا!