في الذكرى الرابعة لانتقاله:وجه من نور

mjoa Wednesday August 20, 2008 428

  عندما اخذت في وضع كتاب “وجوه من نور”، الذي صدر عن “تعاونية النور الارثوذكسية”، كان المثلث الرحمة المطران بولس (بندلي) واحداً من الذين رجوت ان يتسنى لي الاجتماع بهم. كانت بغية قلبي ان التقي به، لأغرف شيئاً من جعبته الغنية بالشهادات المحيية التي قطفها من جنان زرعها الله بالبر. لم يكن من الصعب ان تتصل بالرجل، لتطلب موعداً. كان الصعب ان يبقى الموعد، الذي حدده لك، قائماً في أوانه. فمسؤوليات ملاك عكار كثيرة، وكثيرة جداً. والثابت انه حكم نفسه ان يتابع كل عضو في أبرشيته، ولا سيما من رماهم موت قريب او عزيز في حزن مرير. اخذت موعداً. وقبل يوم من أوانه، أتاني اتصال من دار المطرانية، لينقل موعدي الى يوم آخر. والسبب وفاة احد ابناء ابرشيته. وأتى اليوم الآخر من دون ان يؤجله طارئ.

.

تركت منزلي. واقلّني احد اصدقائي، في سيارته، الى عكار حاملاً مسودة مشروعي غير المكتمل. وما ان وصلنا الى دار المطرانية، حتى استقبلنا بعض الموظفين فيها بحفاوة ظاهرة. كنت أعرف بعضهم من اجتماعات الامانة العامة، في حركة الشبيبة الارثوذكسية، ومن مؤتمراتها ولقاءاتها العامة. ولكن مبالغتهم في الاكرام واظهار الفرح لم احصرها بمعرفتي السابقة بهم، بل كان يقيني الثابت انها من مآثر الرجل. فأنت، مسؤولاً، لا بد من ان تطبع مكان عملك بخصالك. وكانت خصال الرجل برّاً فبرّاً. قعدنا قليلاً، واخذنا حديث سريع يختص بعمل تيارنا النهضوي ولا سيما في مركز عكار. كان الاخوة يتكلمون بحرية لا يشوبها تعثر، حرية تشعرك بأن الدار كلها مشغولة بالتزام النهضة ولغة النهضة وعمل النهضة. ثم اطل صاحب السيادة. مشهد اطلالته يذكرك بأغصان الاشجار العالية التي تحنيها ثمارها. اطل برأسه المنحني. ومشى نحونا الهوينا. واقترب منا. وبعد ان باركنا، امرنا بأن نتبعه الى مكتبه. قلت امرنا، والحال انه رجانا. وهل اقوى من الرجاء أمراً؟

 

قعدنا، صديقي وانا، قبالته. وبعد ان سألني عن احوال خدمتي واهل بيتي، استوضحني في أمر طلبي. فأخبرته بأنني اجمع اخباراً عن اشخاص احبوا الله حتى الثمالة، لتصدر في كتاب خاص. وعلى احساسي انه فهم توا، اقترحت عليه ان اقرأ بعضا مما حصلت عليه. وقبل بامتنان. قرأت القطعة الاولى والثانية والثالثة. وحسبت ان ما قرأته يكفي. فأشار بيده، ورجاني ان اقرأ بعد. اخذت من جديد اقرأ. وفيما كنت أتابع القراءة، انتابني شعور بأن ما افعله لا يخدم قصدي. فالوقت اخذ يضيق. وأنى لي فرصة اخرى تعطيني ان احقق ما أتيت من أجله؟ سمع ما قرأته كله. لم يقاطعني، مرة، لا باستيضاح ولا بتعليق. كان، فيما يسمع، يبتسم فحسب. ثم زال الشعور الذي انتابني فيما كنت اقرأ. فأجأني انني، ولو انتهى لقاؤنا على هذا النحو، لكنت قد اصبت غايتي. لم اكن، قبل الزيارة، احسب ان لقاء الرجل هدف كامل. سحرني تواضعه وابتسامته الوديعة التي كانت قد فعلت فعلها فيّ. ثم احس بأن القطعة الأخيرة، التي قرأتها، قد انتهت، فقال لي بهدوء أخّاذ: “عندي شيء أقوله”. واخذ يروي لي بعض ما خزنه في سنوات خدمته الطويلة.

ما سمعته منه كان جديداً بالكلية. فالكتاب، الذي ظهر، كان خطر فشله ان تكرر مواضيع بعض رواياته. فهم الجو من التوضيح الذي طلبه، ومن القراءات العديدة التي استقبلها بصبر. وابتعد بجديده، عما سمعه. لم يكن ما رواه يتعلق به. فالرجل لم يقدم نفسه، او ما جرى معه، بل الله الذي يؤمن بفعله في الكون. وهذا كان قصد “وجوه من نور”. ولقد ثبت، بما قدمه، القصد ببلاغه لا تفوقها بلاغة.

 كلمني ساعة تقريباً في جلسة استغرقت نحو الساعتين. كنت اسمعه، وادوّن ما يقوله على اوراق قد احضرتها معي. كانت الروايات تخرج من فمه، وقد كتبت ذاتها. كل ما فعلته، انني اطعت الاملاء. املى عليّ القصص قصة تلو قصة. واخذني، فيما كنت اسمعه، ان الروايات، التي حفظها، تنتظر ان تخرج الى العلن. هذا شأن الرواية التي يكتبها الله على لحم أحبائه. شأنها ان تخرج، لنسترجع قلوبنا بالتوبة. كان يريدني ان انقل الشهادة كما خرجت تماما. ليس من مبالغة في عمل الله. كان حريصاً على فعل القصة كما هي من دون زيادة او نقصان. لا يريد تلوينا لغوياً. فاللغة، كما فهمته، جسر لا اكثر. وعلى الله ان يمشي على الجسر، ليصل، وتمّحي اللغة.

اكملنا جلستنا. فشكرت له الوقت الذي منحني اياه. ورد كلمات الشكر بالشكر. ما هذا؟ لماذا يشكرني؟ من أين يأتي هذا الرجل؟ كيف يقدر على هذا الانحناء المنقذ؟ أسئلة لا يمكن ان تفهمها سوى ان كنت تعرف انك لا يمكن ان ترتفع من دون ان تُعطى ان ترى جال الله يعاهدون الانحناء ابداً. هذا هو هدف سر تدبير الرب الذي انحنى الينا، لنرتفع اليه. وكان ملاك عكار يأتي من هذا السر، ويخدم هذا السر.

 قمنا، صديقي وانا، لنودعه. فقاطعنا. لم يحن الوداع بعد. ثمة مائدة، تنتظرنا في باحة الدار، اعدها لنا خصيصاً بعض الذين يخدمون فيها. “الطريق طويلة”، ولا يمكن ان تعودا من دون ان نتناول العشاء معاً”. كلمات تحمل كل الود. كلمات ابوية ترعى الضعف، لتقوّي. فقبلنا بامتنان. لم نكن قادرين على الرفض. فأنت لا تقدر على رد الوداعة. الوداعة هي، وحدها، صاحبة الامر والنهي.

 قعدنا الى الطاولة. وقعد معنا كل الموجودين في الدار، ليأكلوا على المائدة ذاتها. سيد الدار، وبضعة شباب، وامرأة في منتصف العمر، وسيدة عجوز، وصديقي وانا. هذا مشهد اعرفه جيداً في الدار التي ربيت فيها، دار جبل لبنان. كنت اسمع ان دار عكار تشبه دار جبل لبنان. ولكني، في ذلك اليوم، ارتني عيناي ما صدقته أذناي. فصاحبا الدارين يتبعان رؤية واحدة. رؤية عمرها من عمر موافقة انبعاث النهضة في كنيستنا. رؤية لا تميز بين وجه ووجه. رؤية واحدة تجمع الكل الى الواحد. كانت المائدة سخية كما قلوب صاحب الدار وصحبه. وكان السيد يأكل باندهاش طفل. يأكل بفرح. يأكل، ويحضّك على ان تأكل. وكنا نحن نستمتع بالمحبة زاداً لن ننساه يوماً. كنا نتناول المحبة طعاماً يشدد ويحيي.

 الى الطاولة، كان موضوع الحديث الاول سبب زيارتنا. واتتني قصص عن سيد الدار، قصص منعه تواضعه من ان يروي لي منها. لم أكن قادراً على تدوين ما سمعته على اوراقي. وفي الحقيقة، لم أكن بمحتاج الى اوراق. فالروايات السيدية دونت ذاتها بذاتها. اللحم بات الورق. وهل افضل من لحم الانسان ورقاً يكتب الله عليه حبه؟ كان السيد يسمع ما يروى عنه بوجه حائد. تدفق الروايات جعله مستمعا كما نحن. ألغى نفسه بصمت مطبق. واخذ يستقبل ما يسمعه كما لو ان ما يقال عنه يختص باشخاص آخرين. ثم استغل لحظة صمت، ورفع المجد لله. فثبت أنه حاضر. ليس كل انسان قادراً على ان يثبت حضوره. الحاضر هو، فقط، من يرفعك الى ان تمجد الله. فان كنت تؤمن بأن الله هو من يعمل الأعمال، فلا يبقى عليك سوى ان تمجده. وان مجدته بصدق المتواضع، الذي لا يرى سوى الله والذي لا يريد ان يراه سواه، يعطيك تمجيدك حضوراً أبديا.

كانت زيارة؟ لا، بل كانت استقبالاً. لقد استقبلنا الله في جلسة تعجّ بالرقّة والكرم وألوان الفضائل، ومتّعنا برؤية وجهه مرتسماً على وجه من نور.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share