بولس بندلي، رجل الله

mjoa Tuesday November 11, 2008 321

 ينبغي ان تكون، قارئي، من الذين عرفوا بولس بندلي عن كثب، لتوقن أنّ كلّ ما سأشهد به، في هذه العجالة، وما ربّما شهد له به سواي على صفحات هذا الاصدار من “النور” ، ليس من المبالغة بشيء، لكنّه الصدق والكلام الحلال. فقد تقلّصت عند الرجل، حتى الإمحاء، المسافة بين الايمان والعمل، بين الفكر والقول، بين القول والفعل. فلا تجد حرجاً ولا تخشى مغالاة لو شئت أن تقول فيه ما يخطر لك، بل ربّما خشيت التقصير او ان تخونك العبارات او أنت حاولت أن تقول ما تعتبره حقا في رجل لا تفيه حقّه عبارات مهما بلغت، أو تقف العبارات أمام قامته الروحيّة متهيّبة حائرة.

.

 إنّ بولس بندلي عنوان مضيء لسيرة روحيّة غنيّة بنعم الله وعطاياه وبليغة بالعبر، وبدء هذه السيرة البيت. فقد ولد قيصر بندلي ونشأ في بيت وادع من بيوت ميناء طرابلس، ينتصب خاشعا على شاطئه، وقد اشرعت نوافذه على نور الشمس، من الشرق، ومن الغرب على “هذا البحر الكبير الواسع” الذي يمتدّ عميقا الى اللامدى، الى حيث المياه التي فوق الجلد تعانق اختها التي تحت الجلد على نحو يحدّثك بعظمة الله في اعماله، ويستدعي منك السجود له وتمجيده مع داود على الايقاعات المزمورية الرائعة.
 في هذا البيت، ولد قيصر بندلي ونشأ. وكان، مع اشقائه، نتاج تربة كريمة اخصبها خب يسوع وكنيسته، وثبتتها ايمان قويم لابوين تقيين راسخين في الكنيسة الارثوذكسية، وقد اخلصا لها وتعلقا بها وبكنوزها تعلّق من يقرأ فيها حياته كلّها، بل الوجود كلّه بأبعاده ومعانيه كافّة.
 في هذا البيت المؤسّس على قاعدة الايمان القويم، وفي مناخ من الصلاة الحارة وحسن العبادة، يرفده إقبال متواتر على كلمة الله بغية فهمها والتمنطق بها، كان قيصر بندلي ينمو في القامة، وكانت كلمة المسيح تجتاحه شيئا فشيئا (إذا سمح لي بهذا التعبير)، وتنمو فيه، فينمو هو بها حتى، اذا ما بلغ الفتوّة، وجد نفسه، تلقائيا، مجندا بل منذورا لخدمة هذه الكلمة التي ربي عليها منذ طفوليته وشبّ عليها حتى رأى فيها علة كيانه. وكانت حركة الشبيبة الارثوذكسية قد نادته، آنئذ، فانتسب اليعا العام 1944 وانخرط من وجد فيها ضالته او من وجد فيها الارضية الخصبة والموافقة لتثمير الوزنات التي استودعه إياها ربّه. وفي البيئة الحركيّة أخذت سيرة قيصر بندلي تتبلور فصولا، اذ راح “يجاهد فيها الجهاد الحسن” مماثلا رسول الامم بولس وسائرا على خطاه، وفيها اتيح له ان يكتشف دعوته اكثر فاكثر وان يمتحنها.
 وفي لحظة افتقاد علويّ مبارك، احسّ قيصر بندلي (وكان قد تأثر برسول الامم بولس بعد ان تشبع من فكره) أنه، على مثاله، “مفروز (لله) من بطن أمه، ومدعو (إليه) بنعمته” (غلاطية 15:1)، فاختار التكرّس الكلّي لخدمة كنيسة المسيح وكلمته، وصار كاهنا على اسم بولس تيمنا به. والحق أن بولس بندلي كان كاهنا وهو بعد قيصر، فالكهنوت نسيجه. والجدير بوضع يد الاسقف على هامته وحلول نعمة الروح القدس عليه. ومنذئذ حزم الاب بولس (بندلي) حقيبته – ما فيها غير الكلمة الالهية – وراح يطوف بها البلدات والقرى والبيوت، سائحا أنطاكيا على دروب الرب، يزرعها هنا وهناك، وذلك بجولات بشارية تذكّرك باسفار بولس او “بأقدام المبشرين، وما احلاها” (رومية 15:10)، وبنفس رسولي لا يكلّ. ولم يدع بولس بندلي اليأس يتسلّل إليه، رغم كل الصد الذي كام يواجهه هنا وثمة، ولا وهنت له عزيمة، بل كان بصبر القديسين يحتمل كل شيء ويزرع ويسقي الزرع على رجاء ان الله سينمّيه، وهو المأثور عنه ترداده المتواتر مع اشعياء: “قصبة مرضوضة لا يكسر وفتيلا مدخنا لا يطفئ” (3:42). ولعلّ من المفيد الاشارة، هنا، الى ان هذين الصبر والرجاء اللذين اعتصم بهما هما اللذان اثمرا امتدادا للتيار النهوضي، المتمثل بحركة الشبيبة الارثوذكسية، الى معظم رعايا ابرشية طرابلس والكورة وتوابعهما، فاليه والى اخواته آل بندلي يعود الفضل الاكبر في تأسيس فروع الحركة في هذه الابرشية. وما زالت هذه الفروع، الى اليوم تعترف لهم بهذا الفضل وتحدّث به.
 على هذا المنوال الحركيّ نسج بولس بندلي سيرته الكهنوتية، فكان فيها مثال الراعي والخادم. إن الله قد حبا الاب بولس (بندلي) حسا رعائيا رهيفا شفّت عنه محبته العظيمة لشبيبة المسيح، في صفوف الحركة وخارجها. فقد تعهّد هذه الشبيبة، بكلّ ما فيها من توتّرات وتوثّبات، وكلّ ما تختزنه من وعود وتطلعات، تعهدها وقد توسم فيها كل خير ورأى في وجوهها اللامعة معالم كنيسة بهية لغذ جديد طالع من رحم الفجر، فتبتل لها وكرّس لخدمتها الاوقات والجهود، آخذا على عاتقه ارشادها، بالكلمة والاسرار، لى مراعي الخلاص. إنّ بيتا واحداً من بيوت الحركة القائمة هنا وثمة لا يصمت، الى الان، عن التحدث بالساعات الطويلة التي كان الاب بولس يقضيها، في هذه الغرفة او تلك، في هذا الركن او ذاك، منتصبا امام ايقونة السيد، لا تلين له ركبة ولا يهون عزم، يتقبل اعترافات الشبان والصبايا، يوجه ويعلّم ويزرع الطمأنينة والرجاء في نفوس أكثر ما تكون عطشا اليهما، ليكون مع الأبوين جورج (خضر) ويوحنا (منصور) (آنذاك) ثلاثا رعائيا مميزا، اليه يعود الفضل في تعرفنا الى التلمذة، ما هي وكيف تمارس، هذه التلمذة التي تكاد اليوم ان تكون ضالتنا الكبرى.
 على هذا المنوال نسج بولس بندلي سيرته الكهنوتية، التي بلغت خواتيمها في الاسقفية، لما انتدبته نعمة الروح القدس، العام 1983، ليكون اسقفا لأبرشية عكار وتوابعها. وقد اراد المطران بولس اسقفيته مشروع قداسة، ومارسها على هذا النحو. سئلت مرة: ماذا عمل بولس بندلي لأبرشية عكار؟ (وكان قصد السائل- كما اوحى لي سؤاله بالاقل – ما هي الانجازات التي حققها المطران بولس على مستوى المؤسسات؟)، فأجبت سائلي بما أعرفه من هذه المؤسسات وعنها، بدءا من المدرسة الوطنية الارثوذكسية في الشيخطابا. بيد أنني أردفت قائلا لسائلي إن هذه المؤسسات جميعها، على أهميتها الكبيرة، ليست بشيء اذا ما قورنت بالمؤسسة (غير المنظورة ربما) التي بناها بولس بندلي في عكار والتي جعلته، في عيون الذين عرفوه، رجل الله بحق: فحسب المطران بولس انجازا انه منح أهل عكار حظوة أن يروا بأم العين، وأن يختبروا باللحم والدم كيف يكون الاسقف رجل الله بالحقيقة، وكيف يكون رجل الله قديسا. سرّ القدّيس أنه لا يعرف نفسه كذلك. عشراؤه ورفقاء دربه يقرأون فيه قداسته ويتبرّكون. وفي وقت موافق تعلن الكنيسة قداسته وقد لمستها في وجدان محبيه. القداسة بكارة لا يهتك بها ستر، لكنها تخصب، سريا، الذي يلتمسونها، وقد حلت في عيونهم.
 وسم بولس بندلي حياته بعلامات فارقة تخصه حتى التماهي. ولعل أكثر هذه العلامات بروزا عمده عشقه لكلمة الله ومحبته للفقراء. كلمة الله والفقراء شكلا في شخصه نقطتي الضعف الاساسيتين (إذا جاز التعبير).
 أما كلمة الله، وقد تحدثنا عنها، فماذا عن الفقراء؟ كما تبرر بولس بندلي بعشقه الكلمة الالهية كذلك تبرر بحبه للفقراء. وعنده، اصلا، ان الكلمة الالهية لا تستقيم الا اذا جسدت محبة للفقير وعطاء له سخيا. فكان، اذا ما قدم القرابين على مذبح الرب قائلا: “خذوا كلوا هذا هو جشدي الذي يكسر من أجلكم لمغفرة الخطايا… واشربوا منها كلكم ، هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يراق عنكم…”، يدرك أن بعضا من جسده هو ينبغي ان يكسر وان بعضا من دمه هو ينبغي ان يراق، وإلا فلا معنى بتقدمته، لذلك، ما خرج من الكنيسة مرة الا ويده ممدودة للفقراء الذين كانوا ينتظرونه عند الباب. هؤلاء كانوا جرحه النازف، فما كان يحتمل رؤيتهم من غير ان يمد يده الى جيسه، ليسحب من جيبه كل ما فيه، ويجود به عليهم، فكأن ما في جيبه ليس له او كأنه على ما في حوزته وكيل. لقد عرف بولس بندلي، في الفقراء والمساكين، أحبة يسوع الاخصاء، فبدد لاجلهم المال وكل ما ملكت يمينه، وافتقر كواحد منهم.
 إن الحلقة الخاصة بالمطران بولس (بندلي)، التي بثها تلفزيون النور (نورسات)، وقد سجلت بعيد وفاته بساعات، حاولت ان تسلط الضوء على هذا الجانب من سيرته، فعرضت لروايات وحوادث كانت له مع الفقراء، وهي مثال نستذكرها لنقول إنها وضعت الرجل في نصابه الصحيح، في مصف آبائنا القديسين الكباء، ليكون سليل هذه الكوكبة اللامعة من الآباء العظام، الكبار في محبتهم للسيد وللذين وحّد السيّد نفسه بهم.
 لقد تبرّر بولس بندلي بقداسة جعلها نهجه في حياته لأنه عرف نفسه، وهو على الارض هنا، “مستوطنا الملكوت”. ودعناه بعد ان ودع الفصح في تلك الليلة المباركة من حزيران، ورحل عنا محمولا على اجنحة النور الفصحي ومخطوفا بها الى وجه الآب السماوي، هو الذي قضى حياته في هذه الدنيا شاخصا ليه لا يعرف سواه، وملتمسا مرضاته.
 المطران بولس (بندلي) ينتقل عنا انتقال الابرار. يحزننا كثيرا غياب وجهه، لكننا نتعزى عن غيابه بكونه يرتفع عن ارضنا الطيبة بعد ان بذر فيها من قداسته زرعا نرجو ان يثمر بنعمة الرب. عزاؤنا الكبير انه ينتقل عنا الى وجه مسيحه بعد ان قاد اليه كثيرين. دعاؤنا الى الرب القدوس، الذي منه كلّ تعزية، ان يجعل نصيبه مع الابرار والقديسين وان ينفعنا بشفاعته.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share