أناجيك يا سيّد القداسة

mjoa Tuesday November 11, 2008 329

 من طهر سكناك اليوم، حيث لا حزن ولا وجع ولا تنهّد، حيث الملائكة تسبّح خروفك الذبيح، وتمجّد دربه الذي مشيت، ارن الينا سيدي القديس، واسكب التعزية رجاء في نفوسنا، كيلا نحزن كما يحزن باقي الناس. اسأل اله المراحم ان يهبنا نعمة الاصغاء اليك، فتطرب آذاننا بانغام الفردوس، ونكون شهودا أنك معنا، وتشفع بنا بأنات لا توصف.

.

 ملاك عكار، يا زارع الكلمة في مهج خرافها الناطقة، يا باني مداميك ثابتة من حجارة حضارتها، أناجيك اليوم والزرع المخضوضر اليانع، يشدد مفاصله بزيت جادت به يداك، وما أوفره في خوابي ذاكرة الأيام. فيمسح البنون به جباههم ويمضون، وتوقد منه العذارى مصابيح عرس السماء، ويدرك الذين أحببتهم أن الختن الجريح آت، ليضمد جروح الآنام. أناجيك اليوم والحجارة الصماء نطقت، واعلنت اعمال يديك، لكل من لم تعم عيونهم، وتغلظ قلوبهم، وما زلت تسأل لهم، ان يرجعوا ، فحبيبك حتما سيشفيهم.

 “لو كان لكم ايمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم” (متى 20:17). أنت فعلتها سيدي، وانا سمعت ورأيت. سمعتك تقول للجبل الاصم الاجرد الذي اكتسى الصحر والشوك، قم من ها هنا، وانطرح في بحر النسيان. وعاينت، بعد ذلك، واحة علم ومعرفة، تنمو وتكبر، تخدم وتعطي، تتألّق وتتفوّق. وها المدرسة الوطنية الارثوذكسية في عكار، امام أعيننا، تخبر القاصي والداني، انها وليدة فقرك وايمانك واتكالك على الله. واتكالك على الله، عنى، في احد وجوهه، اتكالا على المحبيّن من ابناء عكار العديدين، رعايا وافرادا، مقيمين ومغتربين، اغنياء وفقراء. وشأن هذه المدرسة شأن سائر مؤسساتك التربوية والصحية والاجتماعية، هي مؤسسات للخدمة، فكنت السامري الشفوق، دوما ومن دون تردد، تذكرنا بقول الرب يسوع: “فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، يومجّدوا أباكم الذي في السماوات” (متى 16:5).

وكنت المثال الحيّ. حملت نيراً، كم ارتجفت ركبنا من هوله، وخفنا من عبئه. وكنت الواثق برحمة العليّ، والمدرك أنّ يده معك، وما خاب ظنّك مرّة، فعلّمتنا انّ الذي يتّكل على الله لا يخيب.
وداعتك، كم جرحت كبرياءنا، وعرّت أنانيتنا. الجرح يطهّر، والعري يكشف الحقائق. وما أحوجنا الى الطهر، والى رؤية حقائق الامور.

وماذا عساي أقول في تواضع قدسك، وانت الذي ترى الكلّ بعين كبيرة، وتكاد لا تلتفت الى نفسك. كنت ترى الاعمدة في أعيننا قشات صغيرة، وتحسب ما يشبه القشّة في عينك خشبة، فتحملها فرحاً، وتتبع الفادي سالكاً الطريق الضيّق.

كم كان قلبك يحنو علينا، وكم كنت حريصاً على ان يكون كلّ كاهن، كلّ معلّم، كلّ موظّف، حتى وكلّ ابن روحيّ، على أفضل ما يرام من صحّة وعافية وعيش كريم…

وكم اشتهى البعض لك كرسيّ تسلّط، وعصا تضرب الارض، فريتجف الناس هيبة ووقاراً. وكنت تعلم أنّ في ذلك شيئاً من ترابيّة زائلة، وأنانيّة تقصي المحبة. فالبعض يرغب في انتماء الى ملّة قويّة، الى طائفة تفرض رأيها، الى جماعة تتفوّق على الآخرين. وكنت الصوت الصارخ في برّية تغرّبنا، عسانا نفهم سرّ الصليب، وغبطة العطاء، ومحبّة الآخر.

“ولكنني لست أحتسب لشيء، ولا نفسي ثمينة عندي، حتى أتم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الربّ يسوع، لأشهد ببشارة نعمة الله” (اعمال 24:20). لقد أتممت الخدمة، وما كنت تتطلّب لنفسك شيئاّ، كان فرحك عظيما حين تظهرنا وتنكفئ، حين تقدّمنا وتتأخّر، حين تضعنا أولا وتحاول أن تكون آخر الكلّ. سيدي، تضيق الصفحات بالأمثلة الحية على ما أقول. وأظنّ أن أي خبر نرويه عنك يبقى مقصراً، لان هناك اشياء تختبر بالروح، وتبقى الكلمات والصور عاجزة عن تفسيرها.

أيها المعلم الحبيب، لن أنسى وصيتك الدائمة، الانسان اولا. حتى في قراءتك المناهج التروية، كنت تعتبر وجود الله ضروريا كي تستقيم النظريات المتنوعة، وتصل الى اهدافها المرجوّة. والله لا يحضر عنوة، بل فينا وعبرنا. لذلك كان اهتمامك بالمعلّم، يوازي اهتمامك بالتلميذ، فهذا صورة الله ومثاله، ويجب أن نساعده، بكلّ الوسائل ليعي دوره، وعندما يتماهى التلميذ بمعلمه، لا بدّ من أن يتذوّق حلاوة الخالق ومحبته. فتمسي مؤسساتنا منارة بشارية، بقدر ما يكون العاملون فيها مدركين مواهب الروح فيهم. أترانا نحفظ الأمانة؟ أترانا نواظب على الروح التي زرعتها فينا، أترانا نحفظ الأمانة؟ أترانا نواظب على الروح التي زرعتها فينا، اني كنا، وانى شاءت ارادة الله أن نصير؟

كنت تحب الشباب، وتغمرك السعادة حين تجالسهم وتناقشهم. كنت تشحنهم بغذاء الروح المحيي. وكم راهنت على محبتهم واخلاصهم لكنيستهم، وما خسرت الرهان. كنت تتبعهم الى نشاطاتهم، الى مخيماتهم، الى مدارس الترتيل والموسيقى، الى معظم احتفالات طلاب المدرسة ورابطة خريجيها. شرعت لابناء حركة الروح كل الابواب، وما كنت تشرّعها للحم ودم، بل لسحابة أردتها بالرجاء شاهدة حيّة، لحضور المسيح الحيّ فينا. هذا الحضور الذي كنت تسعى دوماً الى اظهاره، عبر مشاركة فقراء الابرشية مآسيهم، فتأتيهم واعظا معزيا بكلمة الانجيل. هذه الكلمة التي دأبت تفرح القلوب بها عبر الاجتماعات.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share