مقدمة
هذا السؤال يدور في العمق حول معنى الصليب. فلطالما شُوّه معنى الصليب ولا يزال. ولطالما اعتُبر تعبيراً عن نوع من العقد الرهيب أُقيم بين المسيح وبين الآب، عقد كان على المسيح أن يتحمّل بموجبه أقسى العذاب “ليعوّض” عن الإهانة التي ألحقتها بالله خطيئة البشر ويعيد إلى الله كرامته السليبة! ولطالما اعتُبر موت الصليب غاية حياة المسيح الأرضية، فيما لم يكن هذا الموت، كما تصوّره الأناجيل، سوى السبيل الذي كان لا بدّ ليسوع أن يسلكه، في الأوضاع التاريخية الراهنة التي واجهها، بسبب إخلاصه الكامل والذي ذهب به حتى النهاية، إخلاصه الواحد الذي لا يتجزّأ لحقيقة الله وحقيقة الإنسان، فتقبّل الله هذا الإخلاص وأيّده جاعلاً من الضرورة التاريخية التي قبل يسوع أن يسحَق منها أمانة لرسالته، معبره إلى انتصار الحياة فيه وفينا. ولكن هذا المعنى الإنجيلي الأصيل للصليب، هذا المعنى الذي يحفظ شرف الله وكرامة الإنسان، كثيراً ما شوّه، للأسف، بفعل المفهوم الحقوقيّ الذي أشرنا إليه، مفهوم “التعويض”. ذلك الصليب الذي تنشد عنه طقوسنا الأرثوذكسيّة: “يا ربّ، إن صليبك هو حياة وقيامة لشعبك”، ذلك الصليب الذي تحيطه تلك الطقوس بالأزهار والرياحين حين الطواف به في الأحد الثالث من الصوم، بحيث أصبح ذلك الأحد- الذي يُعرف طقسياً “بأحد الصليب”- يسمّى شعبياً “أحد الزهور”، ذلك الصليب حُوِّر معناه بحيث اتُخذ شعاراً لنظرة إلى الحياة تمجّد الألم والفشل، نظرة سادية وماسوشية تتخيّل الله إلهاً مخيفًا يُسرّ بعذاب ابنه الوحيد وترضيه آلام البشر.
ففي هذا الإطار، الذي نكتشف اليوم أكثر فأكثر مدى أثره الفتّاك على المسيحيّة ورسالتها، لا بدّ وأن تؤوّل دعوة المسيح إلى تلاميذه: “مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (متى 16: 24)، على أنها إشارة إلى ضرورة تعذيب الإنسان لنفسه إذا شاء أن يكون تلميذاً حقيقياً للمسيح. وفي أغلب الأحوال يذهب التأويل إلى أبعد من هذا، فيحصر التعذيب المطلوب بالجسد، مما يؤدّي إلى الإعتقاد بأنّ تعذيب الإنسان لجسده فرض واجب لا تستقيم بدونه الحياة المسيحية. وهذا ما يتساءل حوله بحق واضع السؤال.
سنحاول في ما يلي أن نتحرّى معالم الجواب عنه انطلاقاً مما نعتقده الإيمان المسيحي الأصيل.
أولاً: خطأ تأويل ضرورة حمل الصليب على أنها تعني ضرورة تعذيب الجسد
هذا التأويل يفترض تجزئة الإنسان إلى كيانين: نفس وجسد، واعتبار الأولى مبدأ الخير فيه والثاني مبدأ الشر. هذه فكرة مستمدّة أصلاً من الفلسفة اليونانية: فقد كان فيثاغوروس يستند إلى تلاعب بالألفاظ ليعلن أن الجسد (soma) إنما هو بالحقيقة سجن (sema) للنفس، وقد امتدّت نظرته هذه إلى أفلاطون ثم إلى الأفلاطونية المستحدثة ورائدها أفلوطين، الذي قال عنه تلميذه فورفيروس إنه كان يخجل من وجوده بالجسد إلى حدّ رفضه بأن يوضع له رسم. ولكنّ الكتاب يرفض الفكرة التي نحن بصددها لأنه يعتبر الإنسان كياناً موحَّداً يُقبل إلى الله بكلّيته أو يُعرِض عنه بكليّته. أما ما يُسمى “بالخطيئة الأصلية” (للإشارة إلى أصل أو أساس كل خطيئة في الإنسان) فليست في العمق، كما يفهمها الكتاب، مجرد عمل جسدي (أكل ثمرة، كما يقول النصّ، صُنِّفت فيما بعد “تفاحة” واتُخذت خطأً رمزًا لتعاطي المعاشرة الجنسية بين آدم وحواء)، بل إنها موقف كياني يشير إليه أكل الثمرة المحرّمة. فقد ورد في النصّ الكتابيّ: “فقالت الحية للمرأة لن تموتا، إنما الله عالم أنكما في يوم تأكلان منه (أي من ثمر الشجرة التي في وسط الجنة) تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفيَ الخير والشرّ” (تكوين 3: 4-5). كنه الخطيئة، كما يصوّره الكتاب، هو بالتالي أن يقرّر الإنسان بنفسه وبمعزل عن الله ما هو الخير وما هو الشرّ، أي، وبعبارة أخرى، أن ينصب نفسه إلهاً ومحوراً لوجوده الذاتي دون الله .
خطأ الاعتقاد بأن الجسد هو مبدأ الشرّ في الإنسان يتضح لنا بأجلى بيان إذا تذكرنا أن المسيحية ذهبت في اعتبارها للجسد إلى أقصى حدّ، فآمنت بأن ابن الله اتخذ جسداً وضمه إلى لاهوته (“والكلمة صار جسداً…” : يوحنا 1: 14)، ونادت لا بخلود النفس على طريقة الإغريق بل بقيامة الأجساد (وهي ما رفضه حكماء اليونان عندما بشرهم به الرسول بولس في الأريوس باغوس: راجع أعمال 17: 32)، تلك القيامة التي دشّنها يسوع بجسده (من هنا التأكيد على آثار الجراح في جسده الممجّد: “أنظروا يديّ ورجليّ. إني أنا هو. جسّوني وانظروا، فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي”: لوقا 24: 39، وكذلك التأكيد على تناوله طعاماً مع تلاميذه بعد القيامة: “نحن الذين أكلوا وشربوا معه بعد نهوضه من بين الأموات”، أعمال 10: 41).
وقد شجبت المسيحية البدعة الدوسيتية التي قالت إن جسد المسيح كان مجرد صورة ليس إلاّ، كما شجبت المذاهب الغنوسطية (“مذاهب المعرفة”) التي اعتبرت، كالمانوية مثلاً، أن الجسد هو عنصر الشرّ في الإنسان.
2- من جهة أخرى يستند هذا التأويل إلى خوف من الجسد ناتج عن خوف من قوة النزوات الغريزية النابعة من تكوينه البيولوجيّ، وبنوع خاص عن خوف من قوة النزوة الجنسية (خاصة عندما تستيقظ بشكل عارم وفجّ ومفاجئ لدى المراهق بتأثير نضجه الجسدي فتقلب توازناته الطفلية السابقة رأساً على عقب وتحرّك فيه شعوراً بالإثم نابعًا من تجدّد العقدة الأوديبّية وإحساسه بتفاقم خطرها نتيجة لإكتمال طاقاته الغريزية، كل ذلك دون أن يكون له من شخصيته التي لم تنضج بعد ما يسمح له بمواجهة تلك الموجة النزوية بكامل الوعي والمسؤولية، من هنا نزعة لدى عدد من المراهقين، أشارت إليها المحلّلة النفسيّة الكبيرة أنّا فرويد، إلى اتخاذ موقف بالغ الصرامة حيال جسدهم الذي ترهبهم يقظته).
والواقع إن النزوات الغرائزية، والنزوة الجنسية بنوع خاص، قد تجرف المرء إلى سلوك متهوّر وغير مسؤول، وقد تقوده إلى تجاهل متطلبات الواقع ومصلحة ذاته وحقوق الآخرين ونداء القِيم، ضاربةً صفحًا عن كلّ اعتبار آخر غير إشباعها الفوريّ. ولكن انحرافًا كهذا لا يمكن اعتبار الجسد مسؤولاً عنه، إنما المسؤول عنه هو الكيان الإنساني برمّته الذي استقال أمام جموح نزواته الغرائزية عوض أن يتعهّدها ويوجّهها ويضبطها وفقاً لما هو مسجّل في التكوين الجسدي نفسه من قدرة على ضبط الغرائز تتمثّل بما يتميز به هذا التكوين لدى الإنسان من سيطرة لمراكز المخّ العليا على مراكزه الدنيا . ثم إن النزوات الغرائزية لها دور إيجابي إلى أبعد حدّ من حيث إنها تضطر المرء إلى الخروج من قوقعة ذاته والتوجه نحو الغير، وهذا صحيح بنوع خاص بالنسبة للنزوة الجنسية التي لا يمكن إشباعها إن لم يتصل المرء بامرئ آخر بشكل حميم. لذا فقد يكون رفض الجسد ونزواته عائداً، في آخر المطاف، ولو بشكل لا واعٍ، إلى رفض ما تعنيه الغرائز من حاجة إلى الآخر، وإلى محاولة الإكتفاء الذاتي. وكأن المرء في هذه الحال، بتنكّره لجسده، يتنكر لمحدودية كيانه ولحاجة هذا الكيان إلى الغير، ويدّعي لذاته ألوهة ليست على كل حال سوى صورة كاريكاتورية للإله الحيّ، ذاك الذي، وإن كان منزّهاً عن كلّ حاجة، إلا أنه، بالحبّ الذي هو جوهر طبيعته، يتخطّى كليّاً كلّ تقوقع وانكماش، وإذا به، أزلياً، يتوجه بالكلّية خارج ذاته في حركة العطاء والتقبل الكاملَين المتبادلَين التي يتكوّن منها الثالوث.
3- أخيراً فإن هذا التأويل يعتبر التعذيب أمراًَ ضروريًا بحدّ ذاته. وكأن الله، في منظوره، إله ساديّ يُسّر بتعذيب الإنسان.
إليكم حادثة واقعية توضح طبيعة هذا التصوّر لله، الشائع، للأسف، بين المسيحيين. منذ سنتين تقريباً، سمعت في إحدى قاعات الإستقبال سيدة تتحدث عن امتناعها، طيلة فترة الصوم الكبير، عن تسلية مألوفة لديها، وقد قالت هذه السيدة إنها إنما فعلت ذلك على سبيل “الإماتة” (و”الإماتة” مفهوم غربيّ بالأساس متأثّر إلى حدّ بعيد بالمفهوم “التعويضي” للفداء). وإذا بسيدة أخرى تجيبها: ولكن الله، في هذه الآونة، يرسل لنا ما فيه الكفاية من “الإماتات”، وكانت بذلك تشير إلى الأحداث المأساوية التي يجتازها لبنان!
إنها صورة مشوّهة عن الله نسقطها عليه انطلاقًا من أهوائنا. فالإنسان كائن ضعيف يعرف أنه سائر لا محالة إلى الموت. ولكنه، وبآن معًا، يتمرّد على فنائه وزواله. ذلك أن رغبة عميقة تحركّه نحو تخطّي ضعفه وعجزه وتحقيق ذاته بشكل كامل. تلك الرغبة مؤشّر إلى صورة الله المطبوعة فيه وإلى وعد بالإكتمال والخلود سجّله الخالق في أعماق كيانه. ولكن الإنسان، في غالب الأحيان، بدلاً من أن يعترف بضعفه الذاتي ويتوجّه بملء جوارحه إلى الله منتظراً منه تحقيق ما تصبو إليه رغبته، يفضّل أن يخدع نفسه ويتعامى عن ضعفه، وكثيراً ما يلجأ في سبيل ذلك إلى التسلّط على من هو أضعف منه، مما يسمح له بأن يموّه محدوديته ويتناساها مُظهراً إياها بمظهر الجبرؤوت والتحكم والبطش، غير واعٍ أنه بسلوكه هذا إنما يعمّق عزلته وبؤسه. فلا عجب، والحالة هذه، أن يسقط على الله صورة تلك المكابرة التي تعتمد في نفسه فيتخيّله معاملاً إياه كما يعامل هو إخوته في الإنسانية، غير مدرك أن الله، إله يسوع المسيح، هو ذاك الآخر المختلف جذريًا عن أهوائنا، ذلك الذي تحدّث بلسان إشعيا معلناً:
“فإن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب. كما عَلَتِ السماوات عن الأرض كذلك طرقي عَلَتْ عن طرقكم وأفكاري عن افكاركم”.
(إشعيا 55: 8-9).
وهناك أيضاً مصدر آخر لتلك الصورة المشوّهة عن الله، يكشفها لنا التحليل النفسي في تصويره لعملية الإسقاط التي يقوم بها الطفل لاشعورياً على الوالدَين. ففي الطفل تتيقّظ غريزياً مشاعر عدوانية مدمّرة تجاه والدَيه نتيجة عدم تلبيتهما لمطالبه اللامحدودة التي لم تتكيّف بعد مع متطلبات الواقع. ولكنه يرتاع من هذه المشاعر لأنها تستهدف من يحبهما بآن ومن هو بأمسّ الحاجة إلى عطفهما ورعايتهما.
فينشب في داخله صراع يحاول التخلّص من وطأته بالتبرّؤ من تلك المشاعر العدوانية وإسقاطها على الوالدين نفسهما. هكذا، وبفعل ذلك الإسقاط، تنشأ لديه تلك الصور المخيفة عن الوالدين التي خلّدتها القصص الخرافية، كصورة الأب- الغول والأم- الساحرة. تلك الصور تنتقل في ما بعد من الوالدين إلى الله نفسه، بسبب العلاقة النفسية الخاصة القائمة بين صورة الله وصورة الوالدين في العقل الباطن.
ولكن هذه الصورة الخانقة، الساحقة، عن الله، النابعة من أهواء الإنسان وصراعاته النفسية، إنما هي على تناقض كليّ مع صورة الله كما انكشفت لنا في أقوال وأفعال يسوع المسيح الذي لخص رسالته بقوله:
“أما أنا فقد جئت لتحيا الخراف، وتفيض فيها الحياة”.
(يوحنا 10: 10)
ثانياً: في المسيحية، لا قيمة للألم إلاّ بمقدار ما هو ملازم للجهاد في سبيل الحياة والتحرر والتجدّد.
في المسيحية اليوم، عودة متعاظمة إلى أصالة الإيمان وحرص متزايد على تنقيته من كل الشوائب التي لحقت تاريخياً به. هذا ثمرة للعودة الملحوظة في المسيحية المعاصرة إلى ينابيع الكتاب وإلى التراث الآبائي الكبير، كما أنّه ثمرة الإستفادة من تحديات الإلحاد القاسية ومن تصدّيه لأنماط في التفكير والمواقف كثيراً ما اختلطت بالإيمان حتى حجبت حقيقته المشرقة. ومن مظاهر هذه العودة أن المسيحيين يكتشفون اليوم أكثر فأكثر المعنى الإيماني الحقيقي للصليب وللألم.
فعن الصليب، تلاحظ اللاّهوتية الأرثوذكسية المعاصرة أليزابيت بير سيغل أن العديد من مسيحيي اليوم يركّزون بحقّ في نظرتهم إلى الصليب لا على معنى العذاب بل على معنى الخدمة، إذ يرون في صليب المسيح إعلاناً للحب الذي يذهب “إلى النهاية” أي إلى حدّ التخلّي الكامل عن الذات، وذلك من منظار هو منظار يسوع نفسه القائل: “ما من حبّ أعظم من حبّ من يبذل نفسه في سبيل أحبّائه” (يوحنا 15: 13). وترى اللاّهوتيّة المذكورة أن في هذا التطور للفكر المسيحي المعاصر التقاءً مع التراث الأصيل للكنيسة الواحدة المقدّسة الجامعة .
وعن الألم، لا يتورع الأب بوريس بوبرنسكوي، وهو كاهن أرثوذكسي، وأستاذ لاهوت في معهد القديس سرجيوس اللاّهوتي الأرثوذكسي في باريس، عن تأكيد ما يلي:
“… أعتقد أنّه باستطاعتي أن أقول دون أدنى تردد أنّ الألم البشري إنّما هو وجه هام وحقيقي من سقوط الوضع البشري في الشرّ، وإنّه عنصر شرّ. فالله لا يريد عذاب الإنسان، الله لا يُسرّ بعذاب الإنسان…” .
من كل ذلك يتضح إذًا أن المسيحيين اليوم أكثر إدراكًا ممّا مضى بأنّه، في المسيحية، لا قيمة للألم، سواء أكان ألم المسيح أو ألم الذين يسيرون على خطاه، إلا بمقدار ما هو ملازم للجهاد في سبيل الحياة والتحرّر والتجدّد. هذا ما سوف نتناوله من عدّة وجوه.
1- ليست العبرة في الألم بل في الجهاد
فالألم ليس إذاً غاية في المسيحية، وليست له قيمة بحدّ ذاته، إنّما هو نتيجة طبيعية للجهاد في سبيل التحرّر ممّا هو مائت فينا، إذ أنّ هذا الجهاد يقتضي في كثير من الأحوال تمزّقاً وانسلاخًا. ذلك لأنّ الإنسان، كثيراً ما يكون عدوًا لنفسه ينزع إلى الإنقياد وراء عناصر الموت الكامنة فيه. لذا فتغليب الحياة على الموت يتطلّب صراعًا متواصلاً مع “النفس الأمّارة بالسوء”. فمثلاً من أراد أن يصون صحّته، كان عليه أن يقاوم نزعته إلى الإفراط في الطعام أو الشراب أو التدخين أو السهر أو الرّاحة والرفاهية. ومن أراد أن يكون ناجحاً في عمله، متقنًا له، كان عليه أن يقاوم نزعته إلى التكاسل أو الفوضى أو عدم الإستقرار.
ومن أراد أن ينجح ويسعد في حياته العائلية، ترتب عليه أن يقاوم بيقظة واستمرار عناصر التفكّك التي تتسرّب إليها وتهدّدها، كالأنانية مثلاً والتسلّط والرتابة وغيرها… هذا الجهاد، على أنواعه وفي مختلف الميادين التي ذكرنا، مكلف دائماً ومؤلم أحياناً، إنّما الغاية منه، في كل هذه الأحوال، ليست الألم طبعاً بل الحياة واستمرارها وسلامتها وتقدمها ونموّها.
والجهاد المسيحي، من جهته، لا يشذّ عن هذه القاعدة، إنما يندرج في سياق الحياة الآنف الذكر ويخضع لمقتضياته. ذلك أن المسيحية ليست غريبة عن الحياة، مضافة إليها، إنما هي الحياة نفسها إذا حققت كلّ أبعادها وذهبت إلى آخر شوطها. إنّما الجهاد المسيحي هو الجهاد الأكثر جذرية ومصيرية لأنّه يتناول علاقة الإنسان لا بوجوده فحسب بل بمن هو ألف هذا الوجود وياؤه، لذا يرتبط بهذا الجهاد نجاح الإنسان أو فشله فيما هو أهمّ حتى من صحته وعمله وعلاقاته، ألا وهو تحقيق كيانه الأعمق والأشمل، كيانه الأبديّ، ذلك الإله الكامن فيه على صورة الله ومثاله. من هنا إنذار الإنجيل: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح الدنيا كلّها وخسر نفسه؟” (متى 16: 25). إنّ الإله الكامن فينا لا يتحقّق الاّ عبر مخاض، هو مخاض الولادة الجديدة، مخاض”خلع الإنسان العتيق وارتداء الجديد” (كولسّي 3: 9 و10). والمخاض هذا، ككل مخاض، يلازمه الألم لا محالة، إنّما الغاية منه ليست الألم بل الولادة الجديدة وبروز هذا “الإسم الجديد” (أي الشخصية المتجددة) الفريد الذي يتكلّم عنه سفر الرؤيا:
“من غلب، فإنّي(…) أعطيه(…) حصاة بيضاء، مكتوبًا عليها إسم جديد، لا يعرفه أحد سوى الآخذ”.
(رؤيا 2: 17)
2- نكران الذات ومعناه الحقيقي
هذا الجهاد المسيحي يتلخّص في نكران الذّات الذي يدعو إليه المسيح أتباعه: “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (متى 16: 24). فما المقصود بهذه الدعوة؟
“الكفر بالذّات” لا يعني أن يبغض الإنسان نفسه، فيجد لذّة في إذلالها وتعذيبها على نحو ماسوشيّ (صحيح أن عبارة “بغض النفس” وردت في أحد المقاطع الإنجيلية: “إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته، وبنيه وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضاً، فلا يستطيع أن يكون لي تلميذاً”: لوقا 14: 26، إنّما ورودها هنا هو على سبيل الغلوّ الكلاميّ الذي يألفه ويستحبه الأسلوب الشرقي في التعبير، وهذا واضح من سياق النصّ إذ لا يُعقل أن يدعو المسيح إلى بغض الأقارب بالمعنى الحرفي وهو الذي أوصى بمحبة الأعداء!(. فمحبّة الذات أمر مشروع، لا بل هي منطلق ونموذج لكل محبة، كما ورد في الوصية الإلهية التي ثبّتها الرب يسوع: “أحبب قريبك كنفسك” (لاويين 19: 18 ومتى 22: 39).
لذا فإنّ “الكفر بالذّات” الذي يدعو إليه الإنجيل (والعبارة العربية “كفر” جدّ معبّرة من هذا القبيل)، إنّما هو كفر بألوهة مزيفة، كفر بصنم، إنه بالتالي رفض التعبّد للذات، أي رفض الاكتفاء بالذات الراهنة على علاّتها، رفض التشبث بها واعتبارها، على محدوديتها، محوراً للوجود (إن اكتفائية كهذه أشبه ما تكون بوضع طفل ينشبث بطفولته، عالم الحماية والأمان واللاّمسؤولية ومركزية الأنا، ويرفض أن يتخطاها نحو الرشد تجنبًا لما يقتضيه هذا النموّ من تجاوز وانسلاخ ومجازفة). بهذا المعنى يكون “الكفر بالذات” إنما هو، بالواقع، شرط لممارسة محبة للذات حقيقية، لأنّ من يتعبّد لذاته يتوقّف عندها فيحول دون نموّها وانطلاقها، يقوقعها فيحرمها نعمة التواصل والمشاركة وما تمنحانه من غنى وحيوية وحرية وتجدّد. هذا ما نفهمه من كلام السيد القائل:
” من حفظ نفسه يفقدها، ومن فقد نفسه في سبيلي يجدها” (متى 10: 39).
“لأن الذي يريد أن يخلص نفسه يفقدها، وأمّا الذي يفقد نفسه في سبيلي فإنه يجدها” (متى 16: 25).
هذا ما نستطيع أن نختبره أيضاً في حياتنا اليومية. فقد ننهمك بملذاتنا ورفاهيتنا وأرباحنا ونفوذنا، ونتشبث بأفكارنا الضيقة وعاداتنا الرتيبة، ولا نبالي بالآخرين إلا من أجل تسخيرهم لمآربنا وإخضاعهم لأغراضنا. وقد نجد في هذا السلوك (الذي تسميه العامة سلوك “يا رب، نفسي”) متعة وطمأنينة، ولكنّنا قد نكتشف يوماً، إذا عدنا إلى أنفسنا، وقد يحصل ذلك بفعل صدمة أو خيبة، أنّنا، باحتمائنا من مجازفة تخطّي الذّات والبذل والعطاء، إنّما جعلنا أنفسنا على هامش الحياة الحقة، وأنّنا، وإن كنّا حصلنا على متع وملذات يساورها السأم والقلق، لكننا أخطأنا الفرح، ذاك الذي ينتعش به الكيان وينطلق، وأنّنا حُرمنا من نعمة الصداقة الحقة (لا مجرد توافق المصالح) والحب المحيي (الذي هو على نقيض الإمتلاك) وانقطعنا عن المشاركة على أنواعها وما توفره من نموّ واكتمال وسعة أفق وتجدّد للأفكار والمواقف واغتناء للمشاعر، وأنّنا فوّتنا على أنفسنا السعادة التي تأتي من إسعاد الغير. عند ذلك ندرك أن الإنسان الذي يتخطّى ذاته ليتقبّل ويعطي ويشارك، إنّما هو الإنسان الحيّ فعلاً، الذي تتجدّد الحياة باستمرار فيه وحوله.
الإنسان إله بالصيرورة ، ويصير إلهاً إذا تجاوب مع نداء الله له فتجاوز نفسه باستمرار باتجاه الله (وباتجاه الآخرين الذين يخاطبنا الله من خلالهم ويفتقدنا عبرهم ويلقانا بهم)، أمّا إذا تصرف وكأنّه إله بالفعل، فإنّه يعطّل صيرورته الإلهية. التعبّد للذّات يرتدّ إذا على الذات فيحجّمها ويقزّمها ويكبلها ويخنقها. أما تخطي الذّات محبة بالله (وبالأخوة الذين لا تنفصل محبّتهم عن محبة الله: راجع متى 22: 35-40)، تفضيل الله على الذات، فهو وحده يسمح للذات بأن تتحقّق فعلاً لأنه يفتحها على رحاب الوجود الإلهي (هكذا الغصن لا يحيا ولا ينمو ولا يزهر ولا يثمر إلاّ باتصاله بالشجرة: “كما أن الغصن لا يستطيع من نفسه أن يأتي بثمر، إن هو لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فيّ” يوحنا 15: 4).
عند ذاك يصبح الإنسان حراً بالحقيقة: “وتعرفون الحق، والحقّ يحرركم” (يوحنا 8: 32)، وذلك:
* لأن لا شيء يعيق أو يجمّد أو يكبّل انطلاق كيانه إلى ما لا نهاية.
* لأنّه لا يعود مستعبداً لرغائب تتنازعه بشكل عشوائي أو تتسلّط إحداها عليه فتتحكّم به وفقًا لأغراضها الضيّقة، بل يصبح سيدًا لرغائبه (“ملكًا” بالمعنى الروحي للكلمة، على صورة المسيح الملك)، يتعهدها ويحكم وينسّق فيما بينها ويوجهها في خط تحقيق متكامل منسجم لذاته الموحَّدة، تلك التي تتراءَى له في الله صورتها المستقبلية أفقًا يستقطب ويوجّه سعيه.
3- في المسيحية، لا تنكّر للغرائز، إنما ترويض لها:
إذا كانت غاية المسيحية، كما رأينا، هي الحياة وملؤها، فلماذا إذًا يمتنع المسيحيون أحيانًا حتى عن إشباعات غريزية مشروعة (كما يفعلون عند ممارستهم الصيام مثلاً) ولماذا يفرضون على حياتهم النزوية قواعد صارمة كالعفة مثلاً؟ ألا يعني ذلك أنهم ينظرون إلى الجسد بريبة ويتعمّدون بالتالي تعذيبه من أجل “خلاص نفوسهم”؟
هذا برأيي تأويل خاطئ للموقف المسيحي، وإن كان للأسف، يجد، في كثير من الأحوال، ما يبرره، في أقوال المسيحيين وتصرفاتهم.
فإذا نظرنا إلى سلوك الرب يسوع، وهو قاعدة سلوكنا، نرى أنه لا يبدي أي تزمّت تجاه الإشباعات الغريزية بل يتصرّف حيالها بحرية فائقة. فإنّه وهو الذي لم يتراجع أمام ممارسة صيام طويل عند الإقتضاء (راجع متى 4: 2)، كان لا يتورّع عن تلبية دعوات الناس له إلى موائدهم ومشاركتهم الطعام والشراب، غير حافل باتهام أعدائه له بالشراهة:
“جاء ابن البشر يأكل ويشرب، وتقولون: هوذا إنسان أكول، شروب للخمر…”
(لوقا 7: 34)
نفس الحرية، “حرية أبناء الله”، نجدها عند الرسول بولس. فهو، كسيّده، لم يًستعبَد للبحبوحة كما أنّه لم يُستعبَد للخوف منها:
“.. أعرف أن أعيش في العَوَز، وأعرف أن أعيش في السَّعة. لقد روّضت نفسي في جميع الأحوال وفي كل منها، على الشبع وعلى الجوع، على الرفاهة وعلى الفاقه. إنّي أستطيع كل شيء في الذي يقوّيني” (فيلبي 4: 12-13).
هنا بيت القصيد. فليست الغرائز بحد ذاتها أمراً مستهجَناً، ليست بحدّ ذاتها شراً وإثمًا. الشرّ في أن يُستعبَد لها الإنسان فيتيه عن غاية حياته ومعنى وجوده.
“كلّ شيء يحلّ لي ولكن ليس كل شيء يوافقني، كل شيء يحلّ لي ولكن لا يستعبدني شيء” (1 كو 6: 12): بهذه العبارة للرسول بولس تهيؤنا الكنيسة لدخول الصوم الكبير، في أحد مرفع اللحم.
فالصوم ليست غايته “تعذيب الجسد”، إنّما ترويض النزوات الغريزية (“لقد روّضت نفسي…”) بحيث لا ينهمك المرء بإشباعها فيتحوّل عن مهمته الرئيسية ألا وهي لقاء الله ولقاء الإخوة. (ولنا صور عن ذلك في الحياة العادية ومناسباتها الإجتماعية. فقد ينتقص أمروء من كمية الطعام الذي يتناوله إلى مائدة دُعي إليها، وذلك لا استعلاءً على الطعام ورغبة في قهر ذاته، إنّما بسبب حرصه على أن لا ينهمك بالطعام بحيث يتحول عن محادثة مضيفه والمدعوّين معه، وبسبب وعيه بأن هدف الدعوة- وإن تمّت حول طيبات المآكل- إنّما هو أساساً اللقاء الإنساني والمشاركة عبر تناول الطعام معًا- “أن يكون بيننا خبز وملح”- لا الإنهماك بالطعام عن اللقاء والمشاركة. كذلك قد يباعد زوجان بين لقاءَاتهما الجنسية، وذلك لا احتقاراً منهما للقاء الجسدي، بل من أجل أن يتاح لهما، في الفترة الفاصلة بين لقاء ولقاء، مجال تكثيف علاقتهما الوجدانية على كل صُعُد الحياة المشتركة اليومية، بحيث يكتسب اللقاء الجنسي ملء معناه التعبيري ). يقول أحد كبار الروحانيين الأرثوذكسيين المعاصرين، الرّاهب الأسقف كليستوس وير، عن الصوم بمعناه النسكي الأصيل ما يلي:
“نحن لا نصوم لإعتبارنا أن الأكل أو الشرب عمل غير سليم. الطعام والشراب هما، على العكس، مواهب من الله ينبغي أن نستفيد منها بلذّة وعرفان. نحن نصوم، لا احتقاراً منّا لهذه العطايا الإلهية، إنما بغية أن نعي بشكل أفضل أنّها بالحقيقة هبة تُمنح لنا. إنّنا نصوم لكي ننقي موقفنا حيال الطعام والشراب ولكي نجعل منهما، لا تعبيراً عن تساهل مع الشراهة، بل عملاً أسراريًا وواسطة للإشتراك مع ذاك الذي يمنحهما لنا…”
ويخلص هذا الكاتب إلى القول بأنّ الصيام، بمعناه النسكي الأصيل، ليس موجَّهًا ضدّ الجسد، إنّما ضدّ النزعة إلى الإكتفاء الذّاتي دون الله، وإن غايته ليست تدمير الجسد بل جعله أكثر روحانية، أي أكثر امتلاء من حضور الله . بهذا المعنى أيضًا يقول اللاّهوتي الأرثوذكسي الكبير الأب الكسندر شميمن:
*” النسك المسيحي هو حرب من أجل الجسد وليس ضدّه” .
صورة “الترويض” هذه محبّبة لدى الرسول بولس الذي يستلهم مراراً لإيضاح مقتضيات الحياة المسيحية، مثال تدريب الرياضيين (راجع غلاطية 2: 2، 1 كو 9: 24-26، فيليبي 2: 16، 3: 12-14، 2 تيموثاوس 4: 7). فالرياضي الذي يستعدّ لمباراة يخضع نفسه تلقائياً لنظام حياة قاسٍ، فيه تقنين لطعامه وشرابه ونومه وحياته الجنسية، وذلك ليس بغاية تعذيب جسده، إنما من أجل وضع هذا الجسد في أفضل الشروط التي يقتضيها خوضه للمباراة، ومن أجل إعداده لتقديم ذروة عطائه. على منوال مشابه يتعامل المسيحي مع غرائزه، كما يوضح الرسول قائلاً:
* “أما تعلمون أنهم في الميدان يجرون كلهم، ولا يحرز نصب السبق إلاّ واحد منهم. فاجروا أنتم مثله حتى تفوزوا. وكل مسابق يحرم نفسه كل شيء، فهؤلاء يفعلون ذلك من أجل إكليل يزول، وأما نحن فمن أجل إكليل لا يزول…” (1 كو 9: 24-25)