ما المقصود بالإهتمامات “الروحية” والإهتمامات “الدنيوية”؟

mjoa Saturday August 30, 2008 237

أولاً : أخطاء شائعة في تأويل هذه العبارات
1 – الخلط بين “الروحيّ” واللاّمادّي:
في كل قدّاس، يسمع المؤمنون في التسبيح الشاروبيمي الذي يسبق الدورة بالقرابين، هذه الدعوة: “لنطرح عنا كل الإهتمامات الدنيوية إذ إننا مزمعون أن نستقبل ملك الكل…”، وهي عبارات توحي بتمييز بين “الإهتمامات الدنيوية” التي يُطلب من المؤمن أن يطرحها عنه استعداداً لمشاركته في الأسرار وبين “الإهتمامات الروحية” التي يُدعى إلى التفّرغ لها لنفس الغرض. ولكن هذا التمييز كثيراً ما يساء تأويله، فيفهم على أنه تمييز بين اهتمام بالأمور الجسدية، المادية، من جهة، واهتمام بالأمور اللاّماديّة (هكذا تؤوّل عبارة “روح”) من جهة أخرى. ولكن هذا خطأ – وإن كان شائعاً – لأنّ الفكر الكتابي لا يجزّأ كيان الإنسان إلى عنصر مادي وعنصر لا مادّي، شأن الفكر اليوناني، بل يسمّي “جسداً” الكيان الإنساني الحيّ بوحدته المتجسدة(1) التي ينبغي لها أن تمجد الله بكليتها (“فمجدوا الله بأجسادكم”(2)).

.

 

 كما أن الفكر الكتابي عينه لا يشير بعبارة “روح” إلى كيان لا مادّي (كما في المعنى اليوناني للعبارة، ذلك المعنى الذي نجد له أثراً في قولنا “المشروبات الروحية”، والمقصود بها مشروبات تتبخر بسهولة إلى عناصر دقيقة، غير مكثّفة). إنما يشير بها، من جهة، إلى القوة الإلهية التي تبدع وتحرّك وتغيّر وتحيي وتجدّد كل شيء (“فالروح”، في العبرانية كما في العربية مشتق من “الريح”(3). وهو “قوة ديناميكية فاعلة في الكون وفي الإنسان (…) “ترسل روحك فيُخلقون وتجدّد وجه الأرض” (مزمور 103: 30)(4)”. إنه عنصر الخلق المستمر والتجدد على نقيض كل تقوقع وسأم(5)، ولذا “فرموزه في الكتاب المقدس إنما هي الأشياء المتحركة، الريح والطير في الريح، والنار، والماء الحيّ”(6)). ومن جهة أخرى تشير عبارة “الروح” في الكتاب لا إلى الناحية اللاّماديّة في الإنسان، بل إلى الإنسان ككل من حيث اتصاله بتلك القوة الإلهية الخلاّقة وانقياده إليها ليحيا بها ويتجدد ويتحرر ويصبح بدوره محيياً ومجدّداً ومحرّراً: “الروح يهبّ حيث يشاء (…) هكذا الإنسان المولود من الروح” (يو 3: 8)؛ “المولود من الروح إنما هو روح” (يو 3: 6)؛ وعندما يستعمل العهد الجديد عبارة “جسد” أو “جسدي” كنقيض “لروح” أو “روحي”، فالمقصود كيان الإنسان برمته إذا حاول أن يكتفي بذاته دون الله حتى إذا عبّر عن محاولة الاكتفاء هذه برذائل نعتبرها عادة نفسية أكثر منها جسدية، كالخصام والغضب والحقد(7).
2 – المفهوم الضيّق والشكليّ “للدين”:
وكثيراً ما يفهم أيضاً التمييز بين “الإهتمامات الروحية” و”الإهتمامات الدنيوية” على أنه تمييز بين “الدين” (بمفهومه الضيّق، المقتصر على مجموعة من العقائد والتعاليم، ومن الممارسات الطقسية والعبادية، ومن الفرائض الخلقية) و”الدنيا” (ويفهم بها كل شؤون الحياة، من طعام وشراب ولباس وسكن، وأفراح وأتراح، ومهنة وعائلة وعلاقات إنسانية، وعلم وفكر وسياسة وإقتصاد …). ولكن هذا خطأ أيضاً. فالمرء قد يحفظ تعاليم الدين ويمارس فرائضه وهو بعيد عن روح الله “ليس من يقول لي “يا ربّ، يا ربّ! ” يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات”(8)؛ “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، تؤدّون عُشر النعنع والشِّبث والكمّون، بعدما أهملتم ألزم ما في الشريعة: العدل والرحمة والوفاء (…) تطهرون ظاهر الكوب والصحفة، وباطنهما ممتلئ نهبا وطمعا”(9)؛ “لو تكلمتُ بلغات الناس والملائكة، ولم تكن لديّ المحبة، فما أنا إلاّ نحاس يطنٌ أو صنجٌ يرن. ولو وُهبت لي النبؤة وكنت عالماً بجميع الأسرار، عارفاً كل شيء، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولم تكن لديّ المحبة، فما يجديني ذلك نفعاً”(10)). وبالعكس فقد يحيا شؤون الدنيا كلّها بروح الله فيقدّسها: “فإذا أكلتم وشربتم أو مهما فعلتم، فافعلوا كل شيء لمجد الله”(11). قد يتخذ المرء من فرائض الدين نفسها ذريعة لإهمال أخيه في الشدة (كما كان يفعل الفريسيون بتفسيرهم وصية السبت على أنها تحرّم معالجة المريض ما لم يكن مدنفاً(12))، لا بل لسحقه وإذلاله وإحكام التسلط عليه (كما كان يفعل الفريسيون أيضاً، شأنهم في ذلك شأن سائر ممثلي الحكم الديني في أيام يسوع(13)) فيكون هذا الإنسان “دنيوياً” في تديّنه؛ وعلى العكس فقد يهتم بشؤون الأرض ليطعم الجياع ويكسو العراة ويؤوي المشردين، فيكون “روحياً” في سعيه الأرضي هذا.
لقد أزال المسيح الحاجز المصطنع المقام بين “الدين” و”الدنيا”، إذ نقض الهيكل الذي كان يعتبر مكان حضور الله وأقام بدلاً منه هيكلاً آخر وهو جسده، ذلك الجسد الذي يمتدّ ليشمل البشرية بأسرها (المدعوّة كلها إلى الخلاص) والكون برمّته (المدعوّ كلّه إلى التجدد)، فأصبح هذا الجسد الكوني كلّه، بالمسيح، مكاناً لحضور الله. بالمسيح أدركْنا أن الله، وإن كان بجوهره متعالياً على الكون (أي أن طبيعته اللاّمخلوقة متميزة جذرياً عن طبيعة الكون المخلوق)، إلا أنه حاضر في صميمه بروحه الذي يمدّ الكون بالوجود والحياة والقوة والجمال والقدرة على الارتقاء نحو الأفضل(14)، وأن هذا الحضور الإلهي قد تكثّف بالتجسد – كما يتأجج الجمر، إذا نُفخ عليه، بقوة النار الكامنة فيه – وأن إنسانية يسوع المتجلية بالصليب والقيامة والصعود صارت، عبر الكنيسة التي هي امتدادها في التاريخ، محور ورشة تأليه البشرية وتجديد الكون، وأن لا شيء في حياة الإنسان وفي عالمه غريب عن ورشة التجديد هذه، إلاّ ما تقصيه خطيئة الإنسان عنها محرّفة إياه عن غايته ومغرّبة إياه عن مقصد الله فيه.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share