هل يمكن العيش إنجيليًا؟

mjoa Saturday August 30, 2008 218


“هل نستطيع أن نكون مسيحيين حقًا، وأن نتمثل المسيح في حياته ومواقفه وتعاليمه (مثلاً: أحبوا أعداءكم … مَنْ ضربك… باركوا لاعنيكم …)؟”.

مقدمة:
 هذا سؤال يطرحه غير المسيحيين بشكل انتقاد موجّه إلى المسيحية، فيقولون أن مبادئها جميلة جدًا، ولا شك، ولكنها غير قابلة للتطبيق. ولكن المسيحيين كثيرًا ما يطرحونه هم أيضًا على أنفسهم، متسائلين عن جدوى إيمانهم وجهادهم. وقد يقودهم هذا التساؤل إلى الشك وأحيانًا إلى القنوط.

.

 

أولاً: خلفيات خاطئة قد تكمن وراء السؤال.
 قبل الإجابة عن هذا السؤال البالغ الأهمية، لا بدّ من إيضاح الخلفيات التي ينطلق منها. ذلك أن الحرص على طرح السؤال، أي سؤال، من منطلقات سليمة، لخير وسيلة تمكننا من الإجابة عنه بشكل صحيح. أما بالنسبة للسؤال الذي نحن بصدده، فلا بدّ من الإشارة إلى أن خلفيات خاطئة كثيرًا ما تمكن وراء طرحه، مما يؤول إلى جعل الإجابة عنه عسيرة جدًا أو مشوهة. ولسوف أحاول أن أوجز هذه الخلفيات الخاطئة فيما يلي:
1- قد يفترض طارح السؤال أن المسيحية مثال أعلى يقدمه لنا المسيح في شخصه ويطلب منا أن نقتدي به ونحذو حذوه. ولكننا سرعان ما نكتشف أن هذا المثال أبعد ما يكون عن متناولنا – خاصة وأننا كثيرًا ما نتصور المسيح مجرد إله ليس له من البشرية سوى الصورة والمظهر – فنشعر إذ ذاك أن المهمة الملقاة علينا إنما هي مهمة مستحيلة.
2- وقد يكون وراء السؤال افتراض بأن المسيحية إنما هي مجموعة فرائض لا بدّ من إتمامها لكسب رضى الله. ولكننا سرعان ما نكتشف أن هذه الفرائض تفوق طاقتنا، فينشأ لدينا، من جراء ذلك مزيج من الشعور بالإثم (لأننا لم نتمم الفرائض) من جهة ومن الشعور بالمرارة والعداء من جهة أخرى (فنتصور أن الله يطلب منها المستحيل، لا بل انه يطلب منا هذا المستحيل باسم محبته لنا، فتتحول هذه المحبة في نظرنا إلى فخ رهيب ينصبه لنا، إلى ابتزاز يمارسه علينا، ويتحول الله في عينينا إلى جلاّد مقنّع بقناع المحبّة). وكثيرًا ما نعالج هذه المعاناة لا بالمواجهة بل بالمواربة، فننفّس عن ضيقنا بموقف عدائي من الآخرين، إذ نتخذ من “الفرائض” المسيحية ذريعة للتسلط عليهم وادانتهم على نمط ما يتراءى لنا من أن الله يتسلط علينا ويديننا، ونشمت بفشلهم في عيشها كي نتناسى فشلنا نحن وما يلحقه بنا من خيبة ومرارة. ولكننا، بتصرفنا على هذا المنوال، نزداد توغلاً في الابتعاد عن “الواجبات” التي وضعناها نصب أعيننا وعن “المثال” الذي رسمناه لأنفسنا، فتزداد معاناتنا وتشتد، بالتالي، محاولاتنا للتنفيس عنها، فنقع في دوامة لا نهاية لها.
خطأ هذين الطرحين كامن في انهما يفترضان بأن “المبادئ” المسيحية إنما هي شيء يُلقى من الخارج ومن فوق على إنسان بقي على وضعه القديم والمألوف، أي وضع كائن تتحكم به الغرائز والأهواء، كائن يتخذ من ذاته محورًا للوجود ولا ينظر إلى الآخرين إلا من خلال مصالحه وحاجاته. عند ذاك فلا بدّ من ملاحظة التباين الرهيب بين الوضع الراهن للإنسان هذا وبين ما يطالَب به، ولا بدّ لهذه المطالبة أن تبدو عند ذاك ضربًا من التعجيز. فمثلاً تبدو وصية محبة الأعداء، من هذا المنظار، إما تنكرًا فاضحًا لطبيعة الإنسان ورغبته الصميمة في الانتقام من الأذى اللاحق به، أو تكريسًا لطبيعة عاجزة جبانة يتحكم بها الخوف فيقتل فيها غريزة الحياة.
3- هذا لأن السؤال الذي نحن بصدده، كثيرًا ما يخفي في طياته افتراضًا بأن الإنسان الحقيقي إنما هو إنسان الأنانية والأهواء. وانه من “الطبيعي” أن يندفع وراء هذه وتلك، مما يؤكد الهوة بين “المسيحية” (كما تُفهم على ضؤ ما أسلفنا) وبين “الحياة” (بمفهومها الذي نورده هنا)، ومما يجعل الأولى بالتالي أمرًا غريبًا بالكلية عن الحياة الحقيقية ومتطلباتها. فلا يبقى بالتالي من مبرر لاتباع “المبادئ المسيحية” سوى أوامر إله غريب يفرض على مخلوقه بأن يسلك على نقيض ما فُطر عليه، رغبة في اقتناء “حياة أبدية” تفهم على إنها مجرد الحياة بعد الموت في سماء لا تمتّ بصلة إلى الأرض كما نعرفها والإنسان كما نختبره. فيصبح المسيحي، في هذا المنظار، وكأنه إنسان يدير الظهر للحياة الواقعية ويعيش في انتظار موت يفتح له أبواب عالم غيبـيّ.

ثانيًا: الطرح السليم للسؤال.
من هنا انه ينبغي لنا، إذا شئنا أن نجد جوابًا عن السؤال المقلق الذي نحن بصدده، أن نعيد طرحه من خلفية أخرى، هي خلفية الخبرة المسيحية الأصيلة التي كثيرًا ما تختفي، للأسف، وراء طروحات لا تمتّ إليها بصلة.
فإذا عدنا إلى هذه الخبرة وجدنا أن السلوك الإنجيليّ ليس مفروضًا من الخارج على إنسان غريب عنه بطبيعته، إنما هو السلوك النابع تلقائيًا من الحياة الجديدة التي يفجّرها الإيمان في ذلك الإنسان. كما إننا نجد، من ناحية أخرى، أن هذه الحياة الجديدة ليست تنكرًا للحياة الحقيقية الراهنة، وإن تصدّت جذريًا لانحرافاتها الشائعة، إنما هي تحقيق لتوقها الأصيل وانتصار له على ما يكتنفه وكثيرًا ما يحبطه من بؤس وزيغ.

1- السلوك الإنجيلي نابع تلقائيًا من الحياة الجديدة التي يفجرها الإيمان.
فمن جهة، ليس المسيحي إنسانا يُفرض عليه سلوك يتنافى مع واقعه. بل هو ذاك الذي دبّت في أعماقه حياة جديدة تتخذ لها تلقائيًا سلوكًا يتناسب ونوعيتها ومتطلباتها. من هنا انه في انسجام عميق مع ذاته إذا سلك وفقًا للخطّ الإنجيليّ، لأن هذا الخطّ إنما هو التعبير الصحيح الوحيد عن رؤيته الجديدة لنفسه وللوجود وعما يرافق هذه الرؤية من توق عميق إلى تحقيقها في الوجود الراهن.
ولنأخذ مثلاً يوضح لنا طبيعة هذا التحوّل. فلنفترض رجلاً بقي الجنس عنده نزوة أنوية لا ترى في المرأة سوى وسيلة لإشباعها. هذا طالما بقي على هذه الحال، لا بدّ وأن تبدو له العفة الإنجيلية إما قمعًا لا يُطاق لحيوية الإنسان (لأنه لا يتصور حيوية على غير شاكلة حيويته هو)، أو سلوكًا لا يليق إلا بمن من انعدمت ذكورتهم فأصبحوا أشباه رجال. ولكن هذا الإنسان، إذا أحب يومًا، يكتشف في المرأة عند ذاك لا مجرد جسد بل وجهًا، بكل ما في هذه الكلمة من تعبير عن الشخصية المتميزة الفريدة. فلا بدّ إذ ذاك أن يبرز في نفسه شعور جديد، وهو شعور عميق بالاحترام، للمرأة المحبوبة أولاً – اذ لم يعد ممكنًا بحال من الأحوال أن يعاملها وكأنها شيء ووسيلة بعد أن تكشفت له أعماق إنسانيتها – ثم لكل امرأة، من باب التوسع، إذ ينقل إلى كل امرأة ما اختبره مع المرأة المحبوبة. هذا الإنسان يكتشف عند ذاك المعنى الحقيقي للعفة فتبدو له إنها السلوك “الطبيعي” الوحيد للإنسان الجديد الذي تحوّل إليه.
أ‌- السلوك الإنجيلي نابع من انقلاب داخليّ.
على هذا القياس، فإن المسيحي هو ذاك الذي حصل فيه انقلاب داخليّ لا بدّ وان يعبّر عنه بنهج جديد في السلوك. ولا قيمة لهذا السلوك إلا إذا كان تعبيرًا عن هذا الانقلاب الداخلّي. فقد يمتنع المرء عن الانتقام تجنبًا للمشاكل، وقد يعفّ حفاظًا على سمعته بين الناس. هذا سلوك يُفهم، وقد تكون له بعض المشروعية، ولكنه ليس بالسلوك المسيحي وليست له أدنى قيمة على المستوى الإنجيليّ. بهذا المعنى قال الرسول بولس:
 “ولو فرقت جميع أموالي وقدمت جسدي ليُحرَق، ولم تكن لديّ المحبة، فما يجديني ذلك نفعًا”.
(1 كورنثس 13: 3)
الانقلاب الذي نحن بصدده إنما هو إذًا انقلاب “المحبة”، أي أن أتحوّل من كتلة من الغرائز والنـزوات والمخاوف والمصالح، إلى كائن محبّ، لا تزول منه كل تلك العوامل والقوى الآنف ذكرها، إنما تسودها وتضبطها وتصقلها وتوجهها المحبة.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share