مقدمة: لقد انطلق هذا الكتاب من سؤال وجّهه إليّ، سنة 1981، شباب من حركة الشبيبة الارثوذكسية في ميناء طرابلس، وقد اتت صياغته على الوجه الآتي: »هل من موقف مسيحي من العنف لاحقاق العدالة؟«. وقد نوقش الموضوع بيني وبينهم في ثلاث جلسات متلاحقة من “ندوة الثلاثاء”. ومنذ ذلك الحين، ما زلت أتابع التأمل والدراسة حول هذا الموضوع وأعدّ العدّة لمعالجته بشكل أكمل ممّا فعلت في محاولتي الأولى، إلى أن أتيح لي أن أحرّر هذا الكتاب بدءًا من صيف 1987.
سؤال الشباب يتركّز كما هو ظاهر على موضوعين: موضوع العدالة وموضوع العنف، وعلى الارتباط بينهما. فقضية العدالة والتحرّر وحقوق الإنسان على أشكالها وضرورة النضال من أجل إحقاق ذلك كلّه، قضية تحتل مكانة مميزة في عالم اليوم الذي كثيرًا ما يعكس الشباب هواجسه. وإنّهم يلاحظون ولا شك أن الوجه الأبرز الذي يتخذه النضال من أجل العدالة، أو بالأحرى الوجه الذي يغلب ظهوره لهم عبر وسائل الإعلام، إنّما هو الوجه العنفي، من عمليات مسلحة وحروب تحرير وأعمال إرهابية. ويُهيَّأ لي أنه قد بدا لهم وكأن هناك تلازمًا بين النضال العنفيّ وبين إحقاق العدالة. ولا يغيب عن البال أن السؤال طُرح، كما سبقت الإشارة، سنة 1981، أي في وقت كانت الحرب اللبنانية مستمرة فيه منذ ستة أعوام. ولا بدّ أن الشباب طارحي السؤال كانوا يلاحظون أن الفئات المسلحة المتصارعة آنذاك “على الساحة اللبنانية” كانت تقول كلها بالنضال المسلح طريقًا إلى الحقوق المشروعة التي تقتضيها العدالة.
ولا بدّ أن هذا الارتباط الراهن بين الدعوة إلى العدالة واعتماد العنف وسيلة لها، قد أثار تساؤلاً وجدانيًا لدى الشباب نابعًا من قناعاتهم الإيمانية. فهم يفهمون أن الانجيل يدعو إلى العدالة من جهة وإلى السلام من جهة أخرى. وكان لا بدّ لهم بالتالي أن يتساءلوا عن كيفية التوفيق بين هذه الدعوة وتلك. من هنا السؤال الذي طرحوه والذي انطلقت منه هذه الدراسة.
الموضوع شائك ولا بدّ. ومما يزيد في دقته وحساسيته كون العنف – شأنه في ذلك شأن الدين والجنس – موضوعًا يعني الإنسان في صميم حياته الانفعالية ويخاطب نزواته، ظاهرة كانت أو مكبوتة. لذا فمن الصعب أن يقف منه الإنسان في موقع الحياد وأن يتطرق إليه بكامل الموضوعية. إنّه معرّض لأن يتخذ المرء منه موقفًا انفعاليًا. قد يتبناه مثلاً ويدافع عنه بحماس موتور وقد يبدي حياله رفضًا قطعيًا لا يقلّ تشنجًا عن الموقف السابق.
لقد حاولنا قدر الإمكان أن نتحاشى هذه الألغام وأن نعالج هذا الموضوع الشائك بأكبر قسط ممكن من الوعي والتبصّر. حاولنا أن لا ننقاد إلى ميلنا الشخصي إلى اللاعنف بحيث نتجاهل مقتضيات النضال العسير في سبيل إحقاق العدالة. لقد اتخذنا من قناعتنا بضرورة هذا النضال خطًا موجّهًا في مفاضلتنا بين العنف واللاعنف كوسيلتين له، فكان لنا من هذه القناعة ما يشدنا إلى الواقع ومتطلباته الراهنة، وما يقينا من الانقياد الرخيص وراء المشاعر والانفعالات.
لذا نظن أننا أعطينا النضال العنفي حجمه وحقه وأقررنا بأنه قد يكون في بعض الأحوال الخيار الذي لا بديل له من أجل إحقاق العدل وإزالة ظلم فادح يسحق العديد من البشر ويدمر إنسانيتهم ويذلّ إلى الحضيض كرامتهم. قلنا إن المتعطشّ إلى العدالة والحرية قد يجد نفسه مكرهًا إلى اعتماد هذا الأسلوب النضاليّ، على علاّته، تفاديًا لشرّ أعظم، وبيّنّا أن العنف يأتي في هذه الحال كمحاولة تصدّ لعنف سابق وبادئ هو »العنف المؤسّسيّ« الذي توسعنا في وصف وجوهه في عالم اليوم بالاستناد إلى أوثق المراجع، والذي لا تخفى طبيعته العدوانية على كل ذي بصيرة وإن برع في إظهار نفسه بمظهر العقلانية والشرعية والأمن والاستقرار. وقد حذّرنا من نوع من الطهرية اللاعنفية التي قد تفوّت فرصة إحداث التغييرات الضرورية التي تقتضيها العدالة وكرامة الإنسان، فتنقلب بالتالي على نوايا أصحابها وتصبح، من حيث لا تشاء، متواطئة مع الشر إذ تسمح له بأن يستمرّ ويستفحل.
ولكننا، من المنطلق عينه، أي من منطلق إحقاق العدالة، حذّرنا من نقيض للطهرية رأينا أنه لا يقلّ خطرًا عنها، ألا وهو »رومنسية العنف« التي شاعت كثيرًا في الستينات ولا تزال تستهوي الكثيرين. فقد تبيّن لنا أن الحماس للنمط العنفي في مكافحة المظالم، واعتناق هذا النمط مذهبًا والإشادة به وتمجيده، إنّما يتعامى عن الإشكالات التي تكتنف استعمال العنف وقد تبعده عن الغاية التي انطلق في الأصل من أجلها، ألا وهي إحقاق العدل، وتسمح له بأن يخدم مقاصد »شهوة التدمير« الكامنة في قرارة الإنسان والمتربصة به والمتحينة شتى الفرص والمتقنعة بأنبل الدوافع للايقاع به واستخدامه لتحقيق أغراضها القاتلة والانتحارية بـــآن. إن »رومنسية العنف« تغفل تلك الحقيقة المرّة، ألا وهي أن العنف كثيرًا ما يستخدمنا حين نظنّ أنّنا المستخدمون له، ويسخّرنا لانتصار الموت في حين أننا كنّا نودّ تسخيره لانتصار الحياة.
وقد يكون الأدهى والأخطر من »رومنسية العنف« هذه، ما يمكن أن نسميه بـ »مكيافيلية العنف«، أي اتخاذ العنف محورًا لسياسة تقوم على مبدأ »الغاية تبرّر الوسيلة«. قلنا إن هذا الموقف قد يكون أدهى من الموقف الرومنسي في العنف، بالضبط لأنه يضفي على هذا الأخير غطاءً عقلانيًا يسمح بالتعامي عن الطاقة النزوية المدمرة التي يحملها، ويتجاهل دروس التاريخ الحافلة بحالات تحوّل النضال العنفي عن غاياته الأصلية إلى إقامة أنواع جديدة من التسلط والطغيان.
إنّ الاعتماد المفرط على العنف، سواءً اتخذ شكلاً انفعاليًا أو حاول التعقلن، من شأنه أن يؤدي إلى انقلاب السحر على الساحر. والحرب اللبنانية – التي لم نأتِ على ذكرها إلاّ لمامًا في متن هذه الدراسة – إنّما هي خير شاهد على ذلك.
إنّ المنحى الذي اتخذته الحرب اللبنانية منذ انطلاقها والذي تفاقم شرّه على مر السنين، أثبت بما لا يحتمل الجدل أن المبررات الأيديولوجية للصراع – التي لا أشكّ في إخلاص الكثيرين ممن التزموا الكفاح المسلح لها – أن هذه المبررات قد تخطّاها العنف الذي كانت تدّعي استخدامه لأغراضها، فإذا به يجيّرها لحساب منطقه الخاص ويستخدمها لأغراضه، أغراض الهيمنة والتسلّط التي تتستر وراءها شهوة القتل والتدمير والانتحار. إنّ الذين اعتمدوا على البندقية سرعان ما أصبحوا، على حد تعبير أحد رجال السياسة اللبنانيين، »عبيدًا للبندقية«. فمن معارك الزواريب والشوارع وتناحر الدكاكين المسلحة ضمن الفريق الواحد، إلى تطور الحرب من صراع بين الطوائف إلى صراع بين المذاهب ضمن الطائفة الواحدة إلى صراع بين الفئات ضمن المذهب الواحد؛ ومن الاحتكام إلى السلاح والتصفيات الجسدية في الخلافات السياسية والصراع على الزعامة ضمن الفريق الواحد إلى اعتماد أقذر أساليب القتل العشوائي كالقنص والقتل على الهوية، والسيارات المفخخة؛ ومن استعمال أحدث الأسلحة وأفتكها تدمّر المساكن وتحصد الأبرياء في أحياء المدن إلى ما شهدنــاه مؤخرًا من صراع عائلي يستخدم القصف المتبادل في حيّ من أحياء العاصمة إلى »قفزة نوعية« في حرب العشائر بحيث استخدمت هذه الحرب، ولأول مرة، الصواريخ لقصف القرى… كل ذلك، إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أن العنف قد تحوّل من وسيلة إلى غاية. وإنّه لم يكن بالفعل – ورغم نوايا العديد من الذين استخدموه وإخلاصهم وشجاعتهم وتضحياتهم – خادمًا لمشروع وطني وإنساني بقدر ما كان عنفًا خالصًا، مجانيًا، عبثيًا، اتّخذ من الذين استخدموه ومن مبادئهم الواعية والمعلنة وقودًا له وأدوات لتحقيق مآربه التدميرية والانتحارية التي ظهرت بأجلى بيان في انهيار البلد وتفتيته.
هذا العنف العبثي اتّخذ من الشبان أداته الرئيسية. فقد استهواهم العنف ورأوا فيه »وسيلة أولى لحل المشكلات«، وانخرطوا بحماس في التنظيمات المسلحة لأنهم وجدوا فيها فرصة للتنفيس عن نزواتهم المكبوتة، تلك التي أججتها فيهم تربية قمعية كثيرًا ما تلقوها في اسرهم. والمؤسف أن القيادات الفاعلة أثناء الحرب استجابت لتلك النزوات سعيًا إلى الاستفادة منها وتجييرها لمشاريعها، فكان أن منحتها الغطاء السياسي أو المذهبي أو العشائري، وبرّأت ما أدت إليه من »ممارسات متفلتة من كل قيد أخلاقي أو وطني أو سياسي أو اجتماعي، متجسدة بسلوك عدواني عنفي، ينجز السرقة والقتل«. هذا لا ينفي بالطبع أن يكون العديد من هؤلاء الشبان تبنوا بصدق المبادئ والمثل التي انضووا تحت رايتها، ولكن هذه اتُّخذت للأسف في كثير من الأحوال، وإلى حد كبير، تغطيةً وتبريرًا وعقلنةً للنزوات المنطلقة بجموح من عقالاتها والمنصبّة في خط العنف العبثي.
حيال تلك المحاذير التي يحملها النضال العنفي، حتى إذا انطلق من أشرف المبادئ والأهداف، كان لا بدّ لنا من التأكيد على وجوب تفادي »رومنسية العنف« أو »مكيافيليته« حتى ولو اضطرت الظروف إلى اللجوء إليه على أنه أهون الشرّين. إلاّ أن تلك المحاذير عينها قد دفعتنا أيضًا إلى طرح بديل عن الكفاح المسلح، ألا وهو النضال اللاعنفي لإحقاق العدالة.
إنّ أحد كبار ممثلي هذا النمط من النضال في عالم اليوم، قيصر شافيز، قال إن لا وقت له ليكتب عن النضال اللاعنفي لأنه منهمك بعيشه وتحقيقه يومًا بعد يوم. والصحيح أن هذا النوع من النضال لا يدرَك على حقيقته إلاّ ممن عاشه وإختبره، وأن كثرة الحديث عنه قد تغني عن اتخاذ أي موقف نضاليّ فعليّ. ولكننا رأينا من المفيد أن نتحدث عنه مطولاً لأنه مجهول ومُساء فهمه إلى حد بعيد، بخاصة في منطقتنا. وقد اجتهدنا بأن نكشفه على حقيقته الصعبة والأخّاذة بآن، انطلاقًا مما صدر من أقوال وأفعال عن رائده الأكبر غاندي والذين سلكوا ولا يزالون يسلكون في إثره حتى يومنا هذا. ولقد شئنا التركيز على طبيعته النضالية رفعًا لكل التباس. فغالبًا ما يكون اللاعنف مقرونًا، في أذهان الناس، بالاستكانة والضعف، وفي أفضل الاحتمالات يُفسَّر على أنه اكتفاء بمحاولة إصلاح الخصم عن طريق الإقناع، مما يسهّل على »الواقعيين« دحضه بقولهم إن الحق في التاريخ الراهن لا يُنتزع غالبًا إلاّ بالقوة. وقد غاب عن بال هؤلاء أن »القوة« إنما هي على أنواع وأن وسائل الضغط على الخصم لدفعه إلى إحقاق الحق لا تنحصر في التصدي المسلح له، وأنّه إن كان لا بدّ من استعمال القوة لانتزاع الحق فهناك نمط من القوة يكون أكثر انسجامًا مع هدف النضال البعيد، ألا وهو بناء مجتمع العدالة والإخاء، وأكثر ضمانة للوصول إليه، وهو النمط الذي يجمع بين التصدي الشديد للخصم وبين حد أدنى من المراعاة لشخصه وإنسانيته. هذا ما تبسّطنا به في حديثنا عن النضال اللاعنفي، لا بل أنّنا أردنا أن نبيّن أن هذا النمط من النضال قد يكون الحلّ الأنجح والأضمن في ظروف يستحيل فيها النضال العنفي أو يكون ثمنه باهظًا. كذلك توسّعنا في بسط الأساليب الراهنة التي يعتمدها النضال اللاعنفي، مقدّمين العديد من الأمثلة التاريخية عليها، وذلك حرصًا منّا على إظهار الطابع الواقعي جدًا الذي يتخذه هذا النضال والنتائج الملموسة التي يحصل عليها.
إننا لم نقدّم النضال اللاعنفي على أنه الحلّ المطلق والوحيد لمشكلة العدالة في الأرض. فالواقع المتشعب المعقّد لا يسمح بمثل هذا التبسيط. إنّما شئنا أن نؤكد على القيمة النموذجية التي يمتلكها هذا النوع من النضال، الجديد نسبيًا في تاريخ الإنسانية، وأن نساهم في كشف طبيعته وأساليبه ومنجزاته لقرّائنا، علّ بعضهم يوليه مزيدًا من الاهتمام ويسعى إلى التعمق في معرفته مستعينًا بالمراجع العديدة التي يستند إليها الكتاب والمذكورة في آخره، أو ربما يتخطى المعرفة الذهنية إلى الممارسة والالتزام.
كتابنا يستلهم الإنجيل والإيمان المسيحي، لذا أدرج في سلسلة »الإنجيل على دروب العصر«، ولكنه يخاطب كل مَن استقام قلبه وخلصت نيتـه، إلى أي معتقد أو مذهب انتمى. فإن غاندي – وهو أحد كبار ملهميه – لم يكن مسيحيًا وإن كان الإنجيل قد استهواه، فاستمد منه بعضًا من توجهاته. وقد حرصنا على أن نغني تحليلات الكتاب بما أوتينا من اطّلاع، بداعي تخصصنا، على معطيات علم النفس الحديث. رجاؤنا أن تنجح أفكاره في استقطاب عدد من الناس – والشباب منهم على وجه الخصوص – فيستعينوا بها على خلق رؤيا متجددة تبشّر بمستقبل أفضل لبلد دمّره العنف وأجهض فيه العدالة.
طرابلس الميناء، لبنان، في 18 أيار 1988
ك. ب.