تأمل …كفــــى

mjoa Saturday October 18, 2008 164

 

 
تأمل من وحي فاجعة السيارة المفخخة في ميناء طرابلس

  (19/06/1985)

 • الى زوجتي التي روت لي المشهد المفجع كما نقل لها.

• الى فتاة قالت لي انها لم تنم بعد سماعها بنبأ الكارثة.

 


 
يا رب،

 
عودتنا المأساة الطويلة، الطويلة، التي يعيشها هذا البلد المنكوب، على تراكم هكذا مقداره للفواجع والضحايا، حتّى اننا اكتسبنا حيالها نوعًا من البلادة بها يحتمي الإنسان غريزيًا من مواجهة الهول. ولكن مشهدًا أو صورة تنتزعنا أحيانًا بعنف من بلادتنا، فإذا بالواقع الشرس يقتحم فجأة طمأنينتنا الزائفة.

 

هذا ما حصل لي في اليوم التالي لكارثة – وجريمة – السيارة المفخخة التي انفجرت ليلة 19 حزيران 1985 في ميناء طرابلس في مكان مكتظ بالمسالمين من الناس، المتنزهين مع عائلاتهم بمناسبة عيد الفطر ينشدون على شاطئ البحر شيئًا من الفسحة والبرودة والترفيه وترويحًا للنفس من الأجواء الخانقة التي تلفّ شعبنا منذ سنين طوال، فإذا بالموت ينقضّ عليهم بأبشع صوره فيحصد منهم 79 ضحية إذا أحصينا القتلى وحدهم، ومنهم العديد من النساء والأطفال. أما الصورة التي جسّدت في جوارحي وكياني هول هذا الحادث المفجع، فهي ما رُوي لي عن والد كان يتنزّه مع أسرته في سيّارة مرّت بذلك المكان، وإذا بولده، البالغ من العمر اثني عشر عامًا، يبدي رغبته بشراء كوب من “البوظة” من محل الحلويات الذي جرى أمامه التفجير، فيوصيه والده بالإسراع ويوقف السيارة بانتظار عودته، فيركض الولد نحو المحلّ حاملاً بيده ورقة نقدية، فيفاجؤه الإنفجار وهو لا يزال في الطريق، وإذا بالوالد يرى – يا للهول – بأم عينيه مشهد جسد إبنه يُقذف في الهواء أمام عينيه …

 

 

سيّدي،
إنّ تلك الحادثة المفجعة التي رُويت لي، والتي إن هي إلاّ وجه من وجوه المأساة، قد هزّتني في الصميم. ربما لأنني والد، ولأن ولدي البكر كان مارًا في المكان عينه قبل ساعة من وقوع المجزرة …

هذا المشهد المروّع – وإن لم أره بل اكتفيت بسماعه – قد جسّد أمام عيني قلبي كل بشاعة الجريمة وفظاعتها. وقد شعرت بأن الكلمات عاجزة عن الوفاء بالتعبير عما أحسّ به، إلاّ إذا تحوّلت إلى مناجاة لك، يا ربّ، وحدها تسمح لي بأن أعانق مأساة البشر.

 

سيّدي،
يتعجّب الناس عادة من بربرية منفذي هذه “العمليات”. وأنا أقول أن العبرة ليست في المنفّذ، الذي قد يكون آلة غاشمة عمياء جُردت من إنسانيتها بشتّى أنواع التضليل والترغيب والترهيب والتخدير، إنّما في الأدمغة المدبرة التي “هندست” المجزرة وخطّطت لها ببرودة أعصاب ودبّرتها بعناية وإحكام وهي تتذرع “بأسمى” الغايات والأهداف…

 

 
سيّدي،
ما أحذقنا في صناعة الموت، وكأننا، بتدميرنا الحياة التي أنت صانعها وبارؤها وموقظها وراعيها، نحاول أن نجاري، كالمسوخ، قدرتك الخلاّقة. فنتناسى – يا لحماقتنا – إن خلية واحدة من خلايا تلك الأجساد التي نمزّقها ونقطّع أوصالها ونحوّلها الى أشلاء دامية متناثرة، “لا صورة لها ولا منظر ولا جمال”، إن خلية واحدة من تلك الأجساد تحوي من الدقة والتركيب والتعقيد والتنسيق ما يفوق بما لا يقاس كل تلك الآلات الجهنمية التي تستنبطها عقولنا المريضة وتمعن فيها تحسينًا وتطويرًا. فإذا كانت هذه حالة خلية حيًة واحدة، فكم بالحري إذا نظرنا إلى إعجاز هذا الجسد البشري الذي هو رائعة من روائع خلقك وهيكل مُعدّ لسكنى بهائك، وإلى التناسق العجيب القائم بين أجهزته ووظائفها، وإلى فرادة الشخص الإنساني العاقل المحبّ، على صورتك، الذي يطلّ منه على الكون وقد جعلت منه خليفتك…

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share