كلمة الأمين العام في افتتاح مؤتمر مركز جبل لبنان

mjoa Thursday November 6, 2008 481

كلمة الأمين العام الأخ رينيه  في افتتاح مؤتمر مركز جبل لبنان  31/10/2008
سيّدي المعلّم المطران جورج
آبائي الاجلاء
الأخت رئيس المركز
أيها الأحبة،

 

سلام بالربّ يسوع المسيح الذي سمح لي أن أشاركَكم هذه الأمسية وأستنيرَ، معكم، من فيض نوره. والشكرُ لله على محبته المذهلة التي تتلطّف بعجزي عن ادراك قصدِه ومشيئتِه فتفتقد جَهلي حيناً بعد حين. وها هي، اليوم، تَمسح عينيّ بطينٍ من نوره لأُبصرَ لوحةَ شباب يعوم فوق أناه متعمشقاً بقدميّ السيد شاخصاً الى السماء، علّني أدرك، بهذا، أن كثيراً مما ابتغاه روحُه القدوس من رؤيةٍ نصبها في رعيل اللوحة المعتّقة، منذ سبع وستين من السنين، هو ما أعاينُه الان ممتدّاً أمام ناظريّ. فرجائي أن تغسِل محبّتُه ضعفاتِنا ونُعطى، جميعاً، أن نعاين، يوماً، فرحَه كاملاً حيث نستحيل بهذه اللوحة الحركية، أينما حلّت، إيقونةَ قومٍ، من نسيج مسيحه، تمتدّ انحناءً إلى متلّمسيها لتشدَّهم الى عُرس السيّد وتختُم جبينَ كلٍّ منهم بالدعوة: أيّها الشاب تعال، قمّ من جَهلك وتحرر من أسر أهوائك وخطاياك وأشمخ نحو الهك لتصر بنفسك إرمياءَ في الكنيسة وبولساً في الأمم. بهذا الانحناء سيُمسح الشباب بطيب الوعاء الذي حملنا، طيب الصلاة والوداعة والمعرفة والبشارة والنبوءة، لنتمّم السعيَ وتعمَّ الرؤيةُ ويتحققَ قصدُ الله .

وإلى تلك اللحظة، الى حين لا نبقى نحن الحركيين، خصوصاً، والمؤمنين، عموماً، قلّةً عزيزة من الناس سنستمرّ في سعينا الى تكاثر هذه القلّة والاسهامِ في “خلاص نفوسنا والذين يستمعون الينا عبر الانصراف الى القراءة والتعليم والانتباه للنفس والمواظبة على ذلك”. فعلّ صدى دعوة الرسول، هذه، الى تلميذه تيموثاوس تترسّخ فينا لنكونَ، بحقّ، حركةَ كنيستِنا في هذا الزمان ومحرّكي هذا الزمان نحو الله.
أيها الأحبة، فيما تفتتحون اليوم أعمالَ مؤتمرِكم الداخلي أجد أن الصعوبات التي تحوط بنا على الأصعدة التي يُعنى بها التزامُنا قضيةَ يسوع المسيح يصعب على أيّ كان حصرُها. ولذا ترونني لا أنشد غاية تختصّ مؤتمراتُنا الحركية بها تتقدّم، اليوم، على تفعيل السبل التي تساعد في بناء الشخصية النهضوية، واعادة التذكير بسِمات هذه الشخصية المؤهَّلة لهذا الدور المحرّك والقادرة على التأثير في كنيستها وخِتم محيطِها وزمانِها بختِم مسيحِها والتي تكاد تضيع في فوضى اجتهادات مختلفة.

فحسماً للجدل أقول إن الحركيّ ، أو النهضوي، هو، أساساً، شخصٌ متصالحٌ مع الرؤية التي وُلد من رحمها ومقتني، بالضرورة، لنبضِها وفكرِها وروحِها. عاين الله في هذا الرحِم واكتسب منه فَهمَه لمركزية المسيح في حياته ومحوريتهِ في الكون ما كشف له مفاهيمَ إيمانيةً، التزمها، عن الربّ وحضورِه وقصدِه ورجائِه بالانسان وآفاقاً، إقتناها، تفتح سعَيه التقديسيّ الخلاصي على رحاب المسيح اللامتناهية. فانطلق، من هذا الفهم، الى معاشَرة ِالله، يصلّي، يمارس الأسرار، يقرأ الكتاب المقدّس، يلتزم حياةَ الكنيسة ودورَه فيها، يبشّر، يشهد ويعيش، وكلِّ هذا بنور النهضة التي ولدته في المسيح، الأمر الذي غذّى مفاهيمَه النهضوية وخصَّه بفكر نيّر متمحورٍ حول المسيح مأخوذٍ برحابتهِ. ولأن رحِم الرؤية الحركية هو تراثُ الحركة وأدبُها وتقليدُها وأعلامُها أقول، باختصار، إنه يستحيل أن يستقيم انتماءٌ الى الحركة مقرونٌ بغربة عما يضمُّه هذا الرحِم. وأيضاً لأن الانتماءُ الى الحركة يفقد مرتجاه ما لم يقترن بتبنّي الآفاق الالتزامية التربوية والرعائية والشهادية لهذه الورشة الحركية والتي خطّها التراثُ الحركيّ. من هنا لا تنفصل مقوّمات الشخصية النهضوية عن أن تكون محوراً يُرتَكز اليه في هذه الورشة. فمُنطَلقاً، إن كلَّ نهضوي هو، في يقيني، بانٍ للنفوس لأنّه حركةُ محبّةٍ، مولودةٌ من محبة يسوع المسيح، تفيض التزاماً ووداعةً ومعرفة وصدقاً وتضحيةً بالمال والوقت والفكر والهاجس ومرافَقةً للأشخاص والجماعة. ولأنّه بهذه الصفات المرتقية بات، حُكماً، قدوةً بانيةً لخاصّة المسيح مُكتسباً، بآن وباستحقاق، حُلّة النبوّة الصارخة بارادةِ الله، اليوم، في الكنيسة والعالم.

بهذه الغاية يلتزم هذا الحركيّ شأنَ عائلة المسيح وهمومها ويحمُل، على هذا الصعيد، ما أوحى به كتابُ الله وحَبَلت به رؤيةُ الحركة، ويذكّر به دون محاباة، لأن المحاباة هي مساومةٌ على محبة المسيح، ودون حقد أو عداء، ليقينه أن غايةَ كلُّ شهادة هي خلاصُ النفوس لا هلاكهِا. فيذكّر بأن الكنيسةَ هي وجهُ حضورِ الله في الأرض ولذلك وَجَب أن تعكُس حياتُها بهاءَ المسيح ونقاوتَه وفكرَه وروحَه. فإن تحلّت بهذه الأمانة لسيّدها تُعطى الكنيسةُ أن تتوّجَ رؤوسَ الناس بجعلِ الله حاضراً وملهِماً ومكلِّلا حياةِ كلِّ شخص منهم وعائلة. إن ما من سبيل لهذه الأمانة بغير أن يمرّ، أولاً، في استقامة السيرة الشخصية لرجال الكنيسة، المفُتقَدةَ، اليوم، لدى بعضهم، لكون المسؤول الكنسيّ هو قدوة للمؤمنين. وأن يمرّ ثانياً في احترام القوانين الكنسية الضابطة لحياة الجماعة مهما اقتضى الأمر. فهذا ليس إضفاءً لمزيد من القدسية على القوانين، بل تحصينٌ للحياة الايمانية والأسرار من فعل نزوات الأهواء والمجد والمال والتسلّط والفردية الملحوظة، أيضاً، لدى هذا أو ذاك من المسؤولين الكنسيين. وثالثاً، في أن يستشفّ المؤمنون ما يجسّد الشركةَ والوحدةَ والمجمعيةَ واحترامَ المواهب والاستماعَ الى الروح في حياة كنيستِهم فلا يُشكِّكُهم الشططُ والتجزئة والتزاحم والفئويات وإعلاءُ شأن كلّ خاصّ على ما تقتضيه كلمةُ الربّ والتفاوتُ الجارحُ بين كنيسة محلّية تُعيق بشارتهَا الحاجةُ وأخرى تُتخم بمظاهر المال والجاه والترفّع والنفوذ. هذا ليس لضرورة أن تعكِسَ حياةُ الكنيسة وحدةَ الجسد ووداعة المسيح وحسب، بل، أيضاً، لأجل أن لا تستبيحَ الغايات الدنيوية حُلَّتها التقديسية، فتصير الكنيسةُ متنكّرةً للعطاء خجولةً بأسيادها الفقراء ملازِمَةً للأغنياء والسياسيين ويُمسي للنفوذ الدنيويّ الوزن الأفعل فيها بدل أن يكونَ لها التأثير التقديسيّ الأفعل في الدنيا. هذا، حقيقةً، لأجل أن لا يعودَ أحدٌ، أيّأ كان شأنه، بحياة كنيستنا الى ظلام ما قبل النهضة، لأجل أن لا تحلّ الأصنامُ المكلّسة نُصباً في ضمير كنيسة المسيح بديلةً لقامات ارتفعت نُصباً بشارية ملكوتية حيّة في ضمائر فقرائها ومؤمنيها كقامة المطران بولس بندلي وقدّيسي كنيستنا، أحياءً كانوا أم منتقلين.

أما العالم، فيتعاطى معه النهضويّ، الملتصق بالمسيح المتجسّد، كمُنتدب من قبل الربّ عن مدّ الحضور الالهي فيه “كي لا يبقى العالم مصلوباً على شرّ الكون” (أوليفيه كليمان). فإيمانه بات، بعد أن قدّست قدما السيد ودمُه الأرض بكلّ ما فيها، أن ما من شأنٍ فيها غريب عن الربّ. الغريب، يا أحبّة، هو أن ينسُبَ بعضُنا شأناً في الحياة الى الله بشكل مباشر وآخر بشكل غير مباشر وأن يظنّ أن ثمّة ما لا يعني الله. إن خُيّل الى أحد أن الوجوه التي يحصر البعض، خطأً، تسميةَ الحياة الروحية بها، وأعني بها وجوه الصلاة والتعليم والتزام حياة الكنيسة هي، وحدُها، ما يعني الله مباشرة فليعلم أن “الصلاة هي اجتماع في الحقّ نمدّه الى العالم” حسب ما ورد في فكر المطران جورج خضر. وإن أقلق أحداً أن يواجه المؤمنُ خطرَ الانحراف والسقوط خلال تعاطيه والناس في شؤونهم وشؤون الدنيا، فليعلم أيضاً أن هذا الخطر لا يُحصر، أبداً، في هذا الوجه إذ ليس ما يمنع أن يتجلّى بشكل أوضح في كلّ الوجوه الأخرى ووصولاً الى الوجه الصلاتيّ. الراهب، نفسه، الذي يخرج من العالم ولا يحمل العالم في صلاته هو في هذا الخطر. المصلّي المتآلف مع أبشع الوجوه في الحياة اليومية والمتقبّل لها ببرودة، المتآلف، مثلاً، مع مشاهد القتل الجماعي أو تفاقم حالات العوز والفقر، أو غيرها من المظاهر المؤلمة هو في صلب هذا الخطر. دعوني أقول إنه ما لم تحرّك كلُّ حالة، مؤلمة أو مفرحة، أحشاءَنا، وتستدعِنا لنتفاعل معها ونقولَ كلمةَ الله فيها لا نكون، في هذا الخطر فحسب، بل على حافّة الانحراف. الشهادة هي لغة البشارة المجسَّدة يقتنيها النهضوي تجسيداً لبنوّته ليسوع المسيح وتبشيراً به وتفاعلاً مع ما يهزّه في عالمه بفعل هذه البنوّة. وهو يتحصّن، في العالم، بما يُحصّن به وجوهَ حياته الأخرى، أيّ بكونه يأتي من الله ولا يشخص إلا اليه فيما هو ملحٌ في هذه الأرض وخمير (مرقس: 9 : 49 – 50). “فلا معنى لوجودنا على الاطلاق إلا لنكون في هذا الوعاء الذي اسمه العالم الى أن يمتلئ العالم منّا بامتدادنا الى أطرافه جميعاً فيكون الضامن والمضمون واحداً. العالم، عند ذاك، يصبح كلّه كنيسة أي عالم الله” يقول المطران جورج خضر.

أيها الأحبة،
رجائي، الى انقضاء الدهر، ألا تزيحَ تربيتُنا واجتماعاتنا ولقاءاتنا ومؤتمراتنا وأنشطتنا عن كونها رحِماً يبعث قاماتٍ انجيليةَ الهوى، من نسيج تلك القامات التي ولدتنا في المسيح، ينشر حلولهُا بين الناس عِطر الربّ الذي يغسل وطأة التاريخ عن وجه الكنيسة ويجذب الناس الى طريق الخلاص. ولكم جميعاً محبّتي والسلام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share