سيرة ابرشية

mjoa Tuesday November 11, 2008 208

أبرشية تنتظر:

 قبل تولّي المطران بولس مهامه كراعٍ لأبرشية عكّار للروم الأرثوذكس، كانت هذه الأبرشية تمرّ بمرحلة بالغة الصعوبة على الصعد الرعائية والّليتورجية والإدارية كافّة، حيث غاب التعليمُ الديني، بنسبة كبيرة جدًا، في كنائس شبه خالية وأخرى مقفلة. ونشأت أجيال لا تعرف عن الإيمان الأرثوذكسي شيئًا، ما شكّل أرضيّة خصبة ملائمة لانتشار الهرطقات وتفشّي البدع، التي جهدت في بثّ سمومها،إاضافة الى انخراط العديد من الأرثوذكسيين في تنظيمات، متبنّين ايديولوجيات ومعتقدات فكرية وسياسية، لا تلتقي كلّها مع فكر الكنيسة وتعليمها.

.

 وتزامن هذا الواقع مع وجود سلطة كنسية لم تدرك خطورة هذا الواقع وتداعياته، رافضة اي تماس او تواصل جماعي مع الحالة النهضوية التي انطلقت مع حركة الشبيبة الارثوذكسية في اربعينات القرن الماضي. وقد نجحت هذه السلطة في عزل الرعايا، والشباب فيها بشكل خاص، عن التيار النهوضي الخادم في الكنيسة الانطاكية، رغم وجود اشخاص ارثوذكسيين ملتزمين ومتواصلين مع حركة الشبيبة الارثوذكسية بصورة فردية.
 وكذلك، لم تكن السلطة الكنسية في عكار، آنذاك، على علاقة حسنة مع معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي، حيث لم تنتدب اي شخص للدراسة فيه، وتاليا لم يكن الكهنة يمرون بالمعهد اللاهوتي، وتأهيلهم للكهنوت كان يقتصر فقط على تعلمهم اصول الخدمة الليتورجية والتراتيل حصرا، ما عزز العزلة.

 وتمثلت هذه المرحلة ايضا، بغياب اية رؤية ولا سيما لجهة ادارة شؤون الابرشية واوقافها، الموروثة اصلا، فقد ادى شيوع الفوضى على الصعيد الاداري، وغياب اي افق او تصور للمستقبل الى التفريط بالكثير من العقارات الوقفية، بطريقة تخدم المصالح الخاصة للنافذين والمحظيين، وتاليا لم يبذل اي جهد او سعي لانشاء اية مشاريع او مؤسسات تربوية او صحية او ما شابه، تخصص لخدمة ابناء الابرشية.

 هذه الامور كلها وسواها، احدثت غربة حقيقية بين الكنيسة وابنائها، وقد تعززت هذه الغربة وتعمقت بفضل نهج السلطة الكنسية وسلوكها، الذي تمثل بانعدام الرؤية المترافق مع الكسل، الى جانب انخراط هذه الرئاسة بالعديد من الصراعات والانشقاقات التي هددت وحدة الكنيسة الانطاكية على مدى عقود. فغدت ابرشية عكار تعاني غربتين، تكمن الاولى في بعدها وانسلاخها عن التيار النهوضي وعن المؤسسات الكنسية الجامعة كالمعهد اللاهوتي، وعلاقة غير مستقرة مع المجمع الانطامي المقدس، والثانية تتمثل في غربة الادارة الكنسية عن ابنائها، اذ تميزت بالعجز والتقصير الاداريين، فتركتهم عنما لا راعي لها، لا تخطط ولا تواكب ولا تشارك، حتى ان مشاركة المطران في خدمة كنسية، ولا سيما خدمة الجناز، كانت تقتصر فقط على من يستطيع ان يتحمل الكلفة المادية، اي على الميسورين من ابناء الابرشية وبناء على الطلب.
 حتى انني استطيع ان اتجاسر، لاقول ان مواقف السلطة الكنسية وممارستها آنذاك، وما رافقها من اهمال، وقلة تبصر، عوامل قد ادت الى حجب صورة الرب وكنيسته او تشويهها عند كثيرين. بل استطيع القول، ايضا، ان حالة الغربة، التي ذكرتها آنفا، تطورت في اماكن عديدة، لتتحول الى حالة خصومة فعلية مع الكنيسة.

 في هذا الواقع المر اصلا، الذي تضاف اليه مرارة الحرب اللبنانية المندلعة وانعكاساتها، وحالى الاهمال الرسمي اللاحق بقرى عكار، وفي ظل وضع معيشي بالغ الصعوبة، شغر كرسي مطرانية عكار، فانتخب المجمع المقدس باجماع اعضائه الاسقف بولس (بندلي) مطرانا على الابرشية، فجسد، بشخصه ومزاياه ونهجه وسلوكه، علامة فارقة. ايقنا معها، نحن معشر من خبره وتعامل معه، انه لم يكن الا تعبيرا صافيا عن افتقاد الله لشعبه في ابرشية عكار، فانطلق بولس بندلي مستعينا بالتعمة الالهية، وبهمة رسولية، لاستعادة الكنيسة امومتها وتاليا وضع اسس المصالحة بينها وبين ابنائها، ولاعادة وصل ما انقطع بين الابرشية ومداها الانطاكي، عاملا وساعهرا في سبيل كنيسة جامعة مقدسة رسولية، انطلاقا من كنيسة عكار، فجسد في سيرته ومسيرته نماذج عديدة عبرت عنها شخصيته كانسان واسقف في آن. ساحاول ان استعرض بعض هذه النماذج.

 

المطران بولس: نموذج الاسقف الخادم:
 يعدد بولس الرسول في رسالته الى اهل غلاطية: (5:22) ثمر الروح الذي هو “محبة، فرح، سلام، طول اناة، لطف، صلاح، ايمان، وداعة، تعفف”.
 وكل من عرف المطران بولس، كما هو، عاين فيه الثمار، كما على شجرة مثمرة، يستطيب فيها التظر، ويحلو منها المذاق، الذي غالبا ما يستمر عند من اراده.

 من ثمار الروح هذه في حياة المطران بولس، وما اثمرته بدورها من تواضع وزهد اكمل مسيرته الاشقفية، راعيا، متعرفا ومتفقدا ابناء ابرشيته كافة المقيمين والنازحين والمهاجرين والمهجرين، طارقا الابواب كلها، متنقلا من بيت الى بيت، مشاركا في الخدم الكنسية كافة بكثافة مرهقة على مدى يومياته، وعلى امتداد جغرافية ابرشيته وخارجها.  كان لا ينطق بغير كلمة الله، واعلانها، مسكونًا بهواجس تجاه الاخر، هاجس خلاصه عبر كنيسة المسيح، وهنا اندفع في التعليم والوعظ واقامة الندوات والسهرات الروحية ومواجهة الهراطقة، واقامة الخدم الكنسية، والاستعانة بالاباء الروحيين.

 وهاجس التعبير عن الاحترام والتقدير، للآخر، اي آخر مهما كان دينه او مذهبه او جنسه او سنه، وهو شخص، مخلوق على صورة الله ومثاله، وقد افتداه الرب على الصليب بثمن عظيم، هاجس عبر عنه المطران بولس بلطف قل مثيله، ووداعة وحلم واصغاء وتواضع وانسحاق، يعجز وصف اي منها، ذلك كله من دون تمييز او محاباة بين مسيحي وغي مسيحي، او بين فقير معدم وثري مقتدر بالمال والسلطة، او بين سليم البنية والعقل وآخر مختلف، او بين طفل او شاب او كهل، او بين رجل او امرأة. لقد اظهر محبته وغيرته للكل.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share