(*) العلمنة من وجهة نظر إيمانية

mjoa Wednesday November 12, 2008 439

حديث ألقي في اجتماع عام عقده في 4 تموز 1976 فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، ثم أعيد إلقاؤه في إطار ندوة بعنوان “الطائفية في لبنان”، عقدت في ثانوية طرابلس الملعب الرسمية للبنين في 29 نيسان 1978، بدعوة من الرابطة الطلابية في الثانوية المذكورة، وشاركت فيها إلى جانب أحد أساتذتها وأحد طلابها، واستُخرج من حديثي مقال سُلِّم في 3 شباط 1979 إلى رابطة طلاب ثانوية الملعب لينشر في مجلة الرابطة.

.

تحديد العلمنة

 قبل الخوض في هذا الموضوع، ينبغي بادئ ذي بدء تحديد المقصود بعبارة “العلمنة”. فالعبارة رائجة كثيراً في هذه الأيام، إلا أن معناها قد يكون مشوّشاً في أذهان الكثيرين. فإذا عدنا إلى الخبرة التاريخية للشعوب التي حاولت أن تطبق العلمنة ابتداء من الثورة الفرنسية، وبشكل أخص ابتداءً من مطلع القرن العشرين، وجدنا أن المقصود بالعلمنة، فصل الدين عن الدولة، بمعنى استقلالية كل منهما عن الآخر. فمن جهة لا تمارس الجماعة الدينية سلطة سياسية ولا تتخذ طابع كيان سياسي يمارس الحكم أو يشارك فيه، مما يجعل الدولة مستقلة لا عن رجال الدين وحسب، بل عن الجماعة الدينية ككل من حيث هي هيئة دينية منظمة لها عقائدها وطقوسها وشرائعها، ومن جهة أخرى، لا تتدخل الدولة في شؤون الدين، فلا تتبنى مذهباً دينياً محدداً (أو أكثر من مذهب)، ولا تسخّر مؤسساتها لدعمه ونشره، ولا تفرض تعاليمه وشرائعه بقوة القانون وبأجهزة السلطة، إنما تعتمد في سنّ شرائعها، العقل وما يقود إليه من قناعة عند أكثرية المواطنين، مما لا يحول دون استلهامها، إذا اقتضى الأمر، بعض ما تنصّ عنه الشرائع الدينية، إذا تلاقت حوله قناعات أكثر المواطنين إلى أي دين أو مذهب انتموا.

 إن عدم تدخل الدولة هذا في شؤون الدين يفترض أن العلمنة – خلافاً لوهم شائع ولبعض الممارسات الخاطئة في تاريخها – لا تعني مطلقاً عداء الدولة للدين، ذلك أن اتخاذ الدولة موقفاً معادياً للدين إنما يعني تدخلاً منها في شؤونه، لا يبرره مفهوم العلمنة النقي (هذا ما فهمه الفرنسيون مثلاً أكثر فأكثر بعد أن اقترنت العلمنة عندهم في أول عهدها بعداء للدين كان بالفعل، إلى حد بعيد، ردّ فعل عكسي ضد السلطة السياسية التي كان يمارسها الاكليروس محاولاً أن يعرقل بها حركة التغيير السياسي والاجتماعي). لا بل أن عداء الدولة للدين يعني تبنّيها موقفاً دينياً بمعنى من المعاني، لأن مناهضة الدين إنّما هي تعبير عن موقف من الأمور الأخروية، وإن كان هذا الموقف سلبياً، وبعبارة أخرى فاللادينية هي أيضاً مذهب ديني لا يجوز للدولة العلمانية أن تتبناه كما لا يجوز لها أن تتبنى ديناً من الأديان. العلمنة ليست إذًا أن تعادي الدولة الدين وأن تسعى لملاشاته بكافة الوسائل من إدارية وتربوية وسواها، إنما هي أن تترك الدولة الدين لمجال الضمائر، فلا تتدخل في هذا المجال الحميم لا سلبياً ولا إيجابيًا.

 

مقتضيات العلمنة على الصعيد اللبناني
 إذا كان هذا تحديد العلمنة، فما هي مقتضياتها على الصعيد اللبناني؟ إن الجواب عن هذا السؤال بالغ الأهمية في الفترة الدراماتيكية الحاسمة التي يعيشها بلدنا والتي يُتوقّع أن يتقرر فيها مصيره لعشرات السنين، إن لم يكن لأكثر.

 بنظري، وبنظر الكثيرين، إن تطبيق العلمنة على الساحة اللبنانية يفترض أمرين أساسيين:
 أولهما إلغاء الطائفية السياسية، التي تعني ممارسة الجماعات الدينية – أو الطوائف – للسلطة السياسية، عن طريق اشتراكها في الحكم من خلال ممثليها في السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، واشتراكها  في الإدارة من خلال ممثليها في مختلف الوظائف العامة، مما يقلّص كيان الدولة كدولة ويجعل منها شيئاً أشبه باتحاد فدرالي بين دويلات طائفية تتقاسم الحكم فيما بينها. فإلغاء الطائفية السياسية يعني زوال تلك الدويلات الطائفية وبروز الدولة ككيان متميز، قوي، موحّد، يوزع خدماته للجميع حسب حاجاتهم، دون التمييز بين فئة وأخرى، ويساهم الجميع في مسؤولياته انطلاقاً من قدراتهم وصفاتهم الشخصية، لا بناءً على انتمائهم الطائفي.

 أما الترجمة الثانية للعلمنة، فلا بدّ من التأكيد عليها أيضاً رغم النقاشات الحادة التي تثيرها في صفوف الحركة الوطنية نفسها. إنها عبارة عن إصدار تشريع مدني للأحوال الشخصية، قد يستلهم تعاليم الأديان في هذا أو ذاك من بنوده، ولكنه مبني أساساً على الاجتهاد العقلي وموافقة أكثرية المواطنين المعبّر عنها ديمقراطياً من خلال ممثليهم في السلطة التشريعية. إن قانوناً كهذا لا يلغي بالطبع أحكام الشرائع الدينية المختلفة، إذ يبقى للمؤمن ملء الحق بأن يتقيد بها بشكل اختياري وفقاً لقناعته. فمثلاً إذا أجاز القانون المدني الطلاق يمكن للكاثوليكي المؤمن الذي لا تقرُّ كنيسته إمكانية فسخ الزواج، أن لا يستفيد من أحكام القانون المدني. وإذا كان تصميم تشريع مدني كهذا يثير بعض الحساسيات ويطرح بعض المشاكل، خاصة بالنسبة إلى الإخوة المسلمين، الذين قد لا تجيز نصوصهم الدينية فصل الدين عن الدولة بالقدر الذي تجيزه، لا بل تفرضه، النصوص الدينية المسيحية، فهناك على الأقل أمر لا بدّ منه بنظري، ألا وهو إقرار تشريع مدني اختياري يراعي وضع المواطنين، وهم لا شك كُثُر، الذين، وإن وُلدوا وسُجلوا في طائفة من الطوائف، إلا أنهم، مع ذلك، لم يعودوا ينتمون، على الصعيد الإيماني الوجداني، إلى أي من المذاهب الدينية المعترف بها في لبنان (كالملحدين مثلاً). فإصدار تشريع مدني اختياري للأحوال الشخصية يمنع من أن تفرض على هؤلاء، مكرهين، كما هي الحال الآن، أحكام شريعة دين لم يعودوا يؤمنون به، مما يشكل خرقاً فاضحاً لحرية الضمير وكرامة المواطن، وهما أساسان لكل نظام ديمقراطي.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share