القدس’’ للمطران جورج خضر ‘‘

mjoa Sunday November 23, 2008 576

  ألقى الأستاذ شفيق حيدر هذه الكلمة في 27/4/ 2004 في الثانوية الوطنية الأرثوذكسية في الميناء، خلال    ندوة أقامتها تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر بمناسبة صدور كتاب ’’القدس‘‘ للمطران جورج خضر ، كما    وألقيت في المناسبة إياها كلمة أخرى للأستاذ رضوان السيد بعنوان: ’’القدس وزمن الرجاء‘‘

 

خلاف الكتاب من يقبل على كتاب “القدس” لسيادة المطران جورج خضر، ونحن مجتمعون حوله في هذه الأمسية، يظن من عنوانه أنّه بحث في المدينة المقدسة وتطلّع إلى مصيرها. والظنّ في محلّه عند مَن لا يعرف فكر المؤلِّف منذ الستينات، ولم يطلّع على ما قالته المسيحيّة الشرقيّة بهذا الخصوص إنْ في الندوة المسيحيّة العالمية من أجل فلسطين الّتي نظّمها مجلس كنائس الشرق الأوسط في أوائل السبعينات، أو في اجتماعين لمنظمة المؤتمر الإسلامي في لاهور والطائف وعلى لسان بطريركين عظيمين هما المثلث الرحمات الياس الرابع وغبطة البطريرك الحالي، أطال الله عمره، إغناطيوس الرابع.

 

 

 

 

 

.

الكتاب في مضمونه، وإن كان مقدسيًّا، ولأنّه كذلك، هو فلسطينيّ بامتياز. “إنّ المسيحيين العرب، في نصرتهم لفلسطين، نقلوا الاهتمام المفرط من الأماكن المقدسة إلى الإحساس بالشعب الفلسطيني مستقطَبًا بالقدس، وبذلك أبطلوا مقولة المصير المنفرد للمدينة” . القدس “حضن فلسطين أو رأسها” . “القدس موطن الشعب الفلسطيني لكونها موطن العدل، ولهذا الشعب حق بعدل يذوقه… البحث في المدينة إنّما هو بحث في شعبها لا في ربّها أو الأنبياء … المشكلة مشكلة حقوق دوليّة لا حقوق السماء في مساحات عقاريّة” . والقدس أيضًا سبيلنا إلى الله: “إننا إنتقلنا من رؤية الحجر إلى رؤية البشر… من الأماكن المقدسة إلى اللامكان، إلى وجه ربّك” . انطلاقًا من هذا الموقف يستشهد سيادة الكاتب، أكثر من مرّة، بالمتصوفة، رابعة العدويّة التي كانت “لا تبغي الحج إلى البيت بل إلى ربّ البيت”، ليؤكّد أن القضية الأساس ليست قضية حجارة وآثار، على أهمّية ذلك، ولكنها قضيّة حقّ الله بالقدس لمّا يُرعى فيها حقّ شعبها. “فالقدس وفلسطين لا يتراكمان موضوعين ولا يتلاحقان، ولكنهما في الصميم حبّ واحد وجبهة واحدة” .

 والأنوار المشرقة من الكتاب تشعّ من القدس إلى فلسطين كلّها والعالم العربي برمّته والعالم أجمع. يلقي الكاتب الضوء على القضيّة الفلسطينيّة برمتها، وعلى مشكلة الإنسان العربي اليوم. هذا الإنسان الذي، إذا ما ارتقى في معراج العلم والتقانة والحريّة والرّوح، هو لفلسطين الترياق ولقدسها أيضًا وللأمّة العربيّة جمعاء وللعالم كلّه، واليهود منه بلا شك. “وينقذ (الإنسان العربي المتجدد) فيما ينقذ نفسه اليهود أيضًا … نحن هاجسنا الإنسان الجديد يهوديًّا كان أم عربيًا … لذا كانت قضيتنا قضيّة الإنسان في العالم كلّه” . من هنا نقول مع المطران جورج خضر، ويا لبلاغة ما يقول: “القدس انفتاح. القدس تتجاوز القدس. إنّها امتداد إلى اللانهاية، إلى الأبد والأعلى، إنّها معراج” .

 أيد ضارعة وقلوب آمنة، خاشعة
 جورج خضر يصلّي فيما يكتب، والقرّاء أيضًا ضارعون. يشخص هو ويشخصون معه إلى السماء ويتساءلون كلهم: يا أرضُ أين أنت من السماء؟ متى يسرح فيك الحمل والذئب، هذا قانعًا وذاك مطمئنًّا؟ متى يتلاثم فيك الحق والعدل؟ متى يرتاح فيك الضعيف إلى القويّ، ويحنو فيك القويّ على الضعيف؟ متى تنقشع العتمات وتتناهى الليالي وتنبلج النيّرات؟

 في كتاب “القدس” ترجيع لما نطلب في الصلاة الربّيّة: ليأتِ ملكوتك، كما في السماء كذلك على الأرض. وكأني بهذا الترجيع دعوة للمؤمنين كي يجهدوا لجعل دنياهم فراديس، وهذا لا يحصل إلاّ بالإيمان المستقيم، وإيمانهم لا يستقيم إلاّ إذا التزموا القضايا العادلة وناضلوا بواسطتها في سبيل الله فيما يناضلون من أجل الإنسان ورفاهه وعدله وسلامه. “فالعدل الّذي جاء في الإنجيل يجب أن يُمارَس ويجب أن يُطالبَ به” . وهذا العدل الإنجيليّ المطلوب التبتل لإقامته ليس لقوم دون قوم، ولا لأمّة دون أمّة، ولا للون دون لون، ولا لإنسان دون إنسان. يقول سيادة الكاتب في هذا الصدد: “والعدل لجميع النّاس أو ليس بشيء” . هنا أساس السياسة الإنجيليّة التي علينا جميعًا أن نمارسها.

 “ولكني في هذه السطور أتكلّم من قناعتي المسيحيّة” . إن الله الّذي نعبد، وبه نؤمن، ليس قائمًا في الأعالي فقط، ولكننا نلقاه خاصّة في وجوه المعذّبين والمهمّشين. من هنا أرى في الكتاب دعوة إلى تجسيد الإيمان وحضًّا على الصدق فيه لأنه، حسبما ورد على لسان الرسول الحبيب يوحنا، إنّ الّذي يتشدق بمحبة الله الذي لا يراه ولا يحبّ أخاه الّذي يراه يكذب. ففي هذا السّياق يكتب سيادة المطران: “ولكي تكون مسيحيًّا يتعيّن عليك أن تتخذ موقفًا من فلسطين. إنها تمثّل لنا الصورة ذاتها للإنسان المتألّم. إن هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء الّذين قُذف بهم من وطنهم إلى الصحراء ليفنوا ويتعذّبوا ويموتوا كما مات يسوع متعذّبًا، يشكّلون “الكنيسة تحت الخيام” طبقًا لتعبير قديم في أدبنا الروحي … ولقد أصبحت فلسطين هي معيار الولاء للمسيح” . وهي كذلك “لأنّ الإله الّذي أعبده هو إله الضعفاء” . “كلّ نازف ينـزف مع المسيح إذ دم المخلّص ودم المعذّبين واحد في الأرض وفي السماء… هذا سرّ اندماج يسوع في الّذين هُدِمت بيوتهم على رؤوسهم في جنّين ومَن تركوهم جرحى ولم يعنوا بهم” .

إيماننا، أيّها السّادة، ليس إرثًا نرثه فنطمئنّ ونستكين، ولكنّه، وفي كل لحظة، سعيٌ دؤوب وجهاد موصول ليتمتّن ويظلّ مستقيمًا. “أومن يا رب فأعن قلّة إيماني”، اعتراف كهذا جعل صاحبه يستحقّ شهادة الربّ أنه لم يرَ إيمانًا كهذا قط في إسرائيل. “والإيمان بدون أعمال مائت” يقول يعقوب الرسول، نخسره فلا نحياه، ونستعيده بالتوبة، وثمّة إشارة إلى ديناميّته في كتاب “القدس” لماّ يرد التأكيد التالي: “الإبراهيميّة حركة وليست رصفًا لعشائر” .

جورج خضر مؤمن، يصدّق ما يقوله الله في إنجيله الشريف مخاطباً النّاس: أنتم هياكل الله الحيّ. إيمانه الصّادق يملي عليه أفكاره فيكتب: “… ولكنّ الدم الفلسطينيّ أعزّ علينا من المعابد لكون هذه الأجساد هياكلَ الله الحيّ”  (ص: 14).

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share