لنصمت حتّى يتكلّم الله

الأب جورج مسّوح Sunday December 28, 2008 197

كثيرًا ما استوقفتني الآية القرآنيّة الكريمة الواردة في سياق الحديث عن ميلاد السيّد المسيح، والتي تقول على لسان الله مخاطبًا مريم أمّ المسيح: “فكلي واشربي وقرّي عينًا فإمّا تريَّن من البشر أحدًا فقولي إنّي نذرتُ للرحمن صومًا فلن أكلّم اليوم إنسيًّا” (مريم، 26). أطاعت مريم أمر ربّها إليها حين أقبلت إلى أهلها وهي حاملة الطفل بين يديها، فصمتت أمام سيل اتّهاماتهم، وأشارت إلى ابنها في المهد، فتكلّم الصبيّ معرّفًا بنفسه ومدافعًا عنها. ما استوقفني في الآية هو أنّها تقول بالألفاظ ما تقوله بالألوان الأيقونة الأرثوذكسيّة المعروفة بـ”العذراء الهادية”، وهي تصوّر مريم حاملة ولدها يسوع وهي تنظر إلى الناظر في الأيقونة وتشير بكفّها إليه، كأنّها تقول لا تنظروا إليّ بل انظروا إليه واسمعوا له.

تختلف الروايتان الإنجيليّة والقرآنيّة عن ميلاد المسيح في كثير من التفاصيل، غير أنّ القرآن الكريم يتّفق مع الأناجيل الأبوكريفيّة (المنحولة، غير القانونيّة) في تفاصيل أخرى. فالقرآن لم يبتدع رواية من لا شيء، بل أيّد رواية من الروايات العديدة التي اختلف بشأنها المسيحيّون. فالقرآن يتحدّث عن كلام المسيح في المهد، وهذا ما لا تذكره الأناجيل القانونيّة الأربعة، فيما يتحدّث إنجيل متّى المنحول عن المسيح طفلاً يتكلّم مع التنانين. وفيما يتحدّث إنجيل لوقا عن ميلاد المسيح في مذود، يجعل القرآن ولادة المسيح تحت جذع النخلة، والنخلة تحضر في إنجيل متّى المنحول على طريق الهروب إلى مصر حيث أمر الطفل الجالس في حضن أمّه النخلة قائلاً: “أيّتها الشجرة، انحني وأطعمي أمّي من ثمرك”، فانحنت وأطعمت الجميع.

بيد أنّ لا خلاف بين القرآن والتراث المسيحيّ في شأن بتوليّة مريم وعفّتها. فالقرآن يتحدّث عن بتوليّة مريم في أكثر من موضع، ولا سيّما في بشارة الملاك جبريل لها بأنّها ستلد غلامًا زكيًّا، هي التي لم يمسسها بشر. والقرآن الكريم الذي ينفي أيّ تدخّل بشريّ في حبل مريم وولادتها المسيح بإعجاز إلهيّ، يلعن اليهود الذين شكّكوا بحبل مريم البتوليّ فاتّهموها باطلاً في تلمودهم بالزنا، فيقول مدافعًا عنها: “وبكفرهم (أي اليهود) وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا” (النساء، 156).

الخلاف العقائديّ بين المسيحيّة والإسلام في النظرة إلى شخص السيّد المسيح هو أمر طبيعيّ. ولولا هذا الخلاف لما كان ثمّة ديانتان بل ديانة واحدة. وينسحب الأمر عينه على المسيحيّين وتفرّقهم كنائس ومذاهب شتّى بسبب اختلافاتهم العقائديّة في شأن بشريّة المسيح وألوهته وطبيعتيه ومشيئتيه. أمّا مريم فهي الجامع المشترك بين المسيحيّة والإسلام وبين غالبية المسيحيّين. مريم هي الأمّ الحاضنة للجميع، والمتأمّلة الصامتة التي لم تنطق في الأناجيل سوى عبارة “ها أنا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1، 38)، ونشيد “تعظّم نفسي الربّ” (لوقا 1، 46-55).

يتّفق القرآن والإنجيل على الحديث عن صمت مريم وتواريها خلف سرّ ابنها. لقد أدركت مريم قبل سواها قدسيّة ابنها وعظمته فقبلت أن تحتجب كي يظهر هو. وإن شئنا الاستعارة لقلنا إنّها تشبه يوحنّا المعمدان، يحيى القرآن، الذي قال عن المسيح: “له ينبغي أن يكبر، ولي أن أنقص” (يوحنّا 3، 30). مريم ليست هنا صورة للأنوثة وحسب، بل هي نموذج كلّ إنسان، ذكرًا كان أم أنثى، من حيث استسلامها لمشيئة الله وتسليمه أمرها. مريم المسلّمة أمرها لله هي النموذج الصامت الذي يتحدّث عن نفسه بأعمال الطاعة لا بالكلام الإنشائيّ والبيانيّ.

مريم تصمت فيتكلّم ابنها في المهد مدافعًا عنها وعن حملها إيّاه وولادته من دون أب. ليس الكلام ضروريًّا في أحيان كثيرة. كلامنا قد يحجب كلامًا أهمّ، كلام الله. ألا يجب أن نصمت قليلاً كي نصغي إلى كلام الله؟ ألا يجب أن نصمت كثيرًا، وبخاصّة نحن رجال الدين قبل غيرنا، كي يسمع الناس كلام الله لا كلامنا نحن؟

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 28  كانون الأول 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share