أطفال غزّة أغلى من كلّ المقدَّسات

الأب جورج مسّوح Sunday January 11, 2009 90

لم نكن في حاجة إلى مشاهدة المجازر اليوميّة التي يرتكبها الجيش الإسرائيليّ في غزّة كي ندرك مدى وحشيّة هذا العدو وعدم إنسانيّته. وهذه المجازر هي نتاج إيديولوجيا جذورها ضاربة في عمق العقل اليهوديّ التلموديّ وبعض العقل البروتستانتيّ الأميركيّ. لذلك تأتي مجازر غزّة ضمن هذا السياق الإيديولوجي الذي سمح بإبادة الهنود الحمر في أميركا وبطرد الشعب الفلسطينيّ من أراضيه، وباستمرار الاعتداءات على الشعوب المستضعفة وبخاصّة الإسلاميّة والعربيّة من دون أيّ رادع أخلاقيّ أو إنسانيّ.

أن تسترخصنا تلك الإيديولوجيا الحاقدة وتتمادى في إعمال آلتها في أجسادنا وأجساد أطفال ونسائنا، فذلك لأنّنا نتهاون في احترام الإنسان وفرادته كونه مخلوقًا “على صورة الله ومثاله” بحسب القول الكتابيّ، وكونه “خليفة الله في الأرض” بحسب القول القرآنيّ. فالأديان تقول إنّ الإنسان هو قمّة الخليقة، وإنّ الله لم يصنع الكون إلاّ كي ينعم الإنسان بالخيرات. لذلك سخّر له الجبال والوديان والبحار والمحيطات، وسلّطه على الحيوانات والنباتات، وأقامه وكيلاً على الأرض كلّها يأمر فيها كيفما يشاء.

لكن، في واقع الأمر، انحرف أهل الأديان عن هذه الأمانة، وعوضًا من أن تشكّل تعاليم تلك الأديان حافزًا لدى المنتمين إليها للتربية على الحرّيّة والقيم الإنسانيّة الشاملة صارت حافزًا لقمع الحرّيّة الإنسانيّة الفرديّة ولإخضاع الإنسان بكلّيّته. من هنا سيطر الفكر الجبريّ على عامّة المؤمنين، وإن قالت الأديان في تعاليمها كلامًا جميلاً عن حرّيّة الخيار لدى الإنسان وإنّه مسؤول عن أعماله التي يقوم بها بإرادته الحرّة. واستغلت السلطة السياسيّة هذه العقليّة الدينيّة الجبريّة لدى العامّة لتستولي على السلطة وتحرّم أيّ ثورة ضدّ الأنظمة القائمة. فكلّ ثورة ضدّ النظام القائم هي ثورة ضدّ المشيئة الإلهيّة، لأنّ الله لو شاء لهذه السلطة السياسيّة ألاّ تكون لما كانت، وكونها قائمة فذلك يعني أنّ الله راضٍ عن وجودها ولا يجوز القيام ضدّها.

أمّا أبرز ثمار الفكر الجبريّ فهي العجز الكامل والشلل وعدم القدرة على الفعل. وهذا ما نراه خصوصًا على امتداد العالمين العربيّ والإسلاميّ. فلم نرَ من ردود فعل على المجازر الإسرائيليّة سوى المديح والندب، مديح للمقاومة الباسلة وندب للشهداء والأبطال الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل “نصرة الأمّة وعزّتها”. مديح وندب فقط هو ما لاقت به شعوبنا شعبًا غزّاويًّا شبه أعزل في مواجهة أحد أعتى الجيوش في العالم، وكأنّ أهل غزّة اليوم أو أهل جنوبنا اللبنانيّ في عام 2006 هما وحدهما المسؤولان عن إستعادة الكرامة، فيما باقي الأمّة رازحة كسلى في ظلّ أنظمة تجوّعها وتسحقها فلا تحرّك ساكنًا.

بيد أنّ أخطر ما نجم عن الفكر الجبريّ إنّما هو التقليل من شأن الواقع الإنسانيّ لصالح الغيب. فبات التوكّل بالمعنى السلبيّ لهذا اللفظ أهمّ من المبادرة، وبات انتظار الآتي يغلب على الفعل من أجل صنع هذا الآتي، وباتت إقامة الشعائر الدينيّة وزيارة المقامات تتقدّم على الاهتمام بالإنسان وبتحقيق كرامته في الأرض. وأغرب ما سمعناه في الآونة الأخيرة هو كلام عن مشاركة أجواق من الملائكة في القتال مع المسلمين دفاعًا عن غزّة. وهل يسعنا إدراج هذا الكلام سوى في محاولة تبرير التقاعس لدى المسلمين عن عدم نصرة الغزّاويّين؟ فأهلاً بالتهاون ما دامت الملائكة تقاتل عنّا، وهنيئًا لنا إذ تخدمنا الملائكة.

لن نفلح إلاّ حين ندرك أنّ دماء أطفال غزّة اليوم هي أغلى عندنا من كنيسة المهد وكنيسة القيامة ومن قبر المسيح، وهي أغلى من المسجد الأقصى ومن مراقد الأئمة ومن الحرمين الشريفين. أهل غزّة وقعوا بين أيدي اللصوص، أطفال غزّة وقعوا بين يدي هيرودس قاتل الأطفال. هم باتوا القِبلة والمحراب، هم العتبة المقدّسة، هم الكنيسة والمسجد، ولن تستقيم صلاة ولا دعاء، ولن يستقيم حجّ ولا زيارة، إلاّ حين تكون عباداتنا منسجمة مع اعتبارنا الإنسان محورًا لكلّ فعلنا الإيمانيّ. ومن دون محوريّة الإنسان “باطل الأباطيل، كلّ شيء باطل”.

 

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 11 كانون الثاني 2009

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share