فرح العيد يكتمل بالتوبة

الأب جورج مسّوح Wednesday December 31, 2008 358

في المناسبات الكبرى، يقف الإنسان مطوّلاً أمام ذاته، ويجري مراجعة وجدانيّة للأحداث التي عاشها أو عاينها، فيخلص إلى نتيجة يظهر فيها مقدار ما كسبه وما خسره على الصعيدين الروحيّ والمادّيّ على السواء. وعيد الميلاد المجيد، الذي يقع في نهاية السنة، هو أحد هذه المناسبات، أو ربّما المناسبة الأهمّ، التي تستدعي مثل هذه المراجعات.

لن نقول مع الشاعر “عيدٌ بأيّة حال عدتَ يا عيد”، ذلك بأنّ العيد، أرثوذكسيًّا، ليس مناسبةً اجتماعيّةً عامّةً أو خاصّةً، بل هو، في المقام الأوّل، استحضار الحدث من الماضي والتفاعل معه ومع معانيه في “الآن وهنا” الحاضرَين. وتاليًا، مَن لا يحيا حدث الميلاد كما لو أنّ يسوع المسيح يولد اليوم في بيته وفي حارته وفي وطنه وفي عالمه، لا يكون قد انتفع من هذا العيد. ليس تذكار العيد مجرّد عدّاد لأرقام السنوات التي عبرت منذ الميلاد إلى اليوم، بل هو بداءة عدّاد جديد يبدأ به الإنسان من الصفر حياةً جديدة وعهدًا جديدًا مع الربّ.

الصفر هو الرقم المفضّل في الأعياد، إذ هو النقطة التي تختم فقرة، كي تبدأ بعدها فقرةٌ ثانية. ومَن لا يقدر على العودة إلى الصفر مزهوًّا بنفسه أنّه راكم الكثير من الفضائل، إنّما هو يغترّ بنفسه ويدين نفسه بنفسه. وإشهار الإفلاس ضرورة قصوى للإنسان كيلا يكون له كنز على هذه البسيطة، بل أن يكون كنزه قلبه وعقله المضاءَين بنور الإله الحقيقيّ. ألم تفلس المرأة التي قدّمت الفلس الأخير الذي معها؟ كنزك صفرٌ. إذًا، أنت الغنيّ.

ثمّة مَن يقول إنّ العيد مناسبة للفرح. هذا صحيح مائة في المائة. لكن ما معنى الفرح؟ هل يكون فرحٌ وثمّة مَن لا يستطيع أن يفرح معك، مع وجود الرغبة لديه في هذه المشاركة؟ هل يكون فرحٌ لا يتوافق مع ما عاشه وخبره وقاله صاحب الدعوة إلى الفرح؟ هل يكون فرحٌ يعاكس كلّيًّا رغبة الداعي إلى الفرح؟ هل يكون فرحٌ مع غياب صاحب الدعوة عن الاحتفال؟ هل يكون عرسٌ في غياب العروس؟

لسنا نقول جديدًا إن قلنا إنّ المسيح هو الغائب الأكبر عن هذا العيد. ولن نكرّر ما قلناه مرارًا وتكرارًا، ولا ما قاله سوانا عن حقّ. ما الفرح الذي دعانا إليه يسوع؟ الفرح بعودة الابن الضالّ إلى حضن أبيه. الفرح، إذًا، هو الفرح بتوبة إنسان واحد يعود إلى ربّه. الفرح بالعيد هو فرح كلّ منّا بتوبته الشخصيّة. فكلّ فرد منّا، هو، بطريقة أو بأخرى، ابن ضالّ فضّل العيش مع الخطيئة على الحياة مع المسيح. ليس عيدٌ يستقيم من دون هذا الفرح، هذا الفرح حصرًا.

ومتى كان ذلك، يكون العيد موافقًا لمقاصده وخواتمه. فالتائب لن يحتفل بالعيد كما يحتفل به سائر الناس، بل كما يليق بتلميذ زكيّ ليسوع. هذا التلميذ الذي ينفي من حوله كلّ مظهر من مظاهر الوثنيّة المتجدّدة وكلّ آليّات المجتمع الاستهلاكيّ الجهنّميّة. فيعود هذا العيد يعني للناس جميعًا أنّ الفرح لا توفّره الزينة ولا الإعلانات الوقحة عن المسكرات ولا آخر صرعات الأزياء، بل تحوّل القلب إلى المحبّة. وهل ثمّة اعتداء يُرتكب ضدّ يسوع في عيده أكبر من الاعتداء الذي يشارك فيه مستكبرو هذا العالم ضدّ فقرائه؟

ملاحظة سارّة لا بدّ منها في هذا المقام وهي تبنّي مقدّم أحد البرامج الترفيهيّة على إحدى الشاشات المدنيّة في لبنان الترويج لعدم استعمال شعار (X-mas) عوضًا من (Christmas) في مظاهر الاحتفال بالعيد. وذلك بأنّ الشعار الأوّل يبدو كما لو أنّه يخفي اسم المسيح لصالح إله مجهول. وهذا ما تحدّث عنه وكتب سابقًا العديد من الآباء، ومنهم صاحب هذه السطور. بيد أنّ اللافت هو الحاجة إلى وسيلة إعلاميّة غير دينيّة تتبنّى الترويج لسلوك دينيّ مستنير، وهذا ما نفتقد إليه بقوّة في بلادنا.

أن نحتفل بميلاد الربّ يسوع هو أن نسمع بدورنا قول الملاك للرعاة: “ها أنا أبشّركم بخبر عظيم يفرح له جميع الشعب: وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّصٌ هو المسيح الربّ” (لوقا ٢: ١٠- ١١). الفرح، إذًا، هو الفرح بالخلاص الذي يبدأ بتوبة حقيقيّة هي حياة تتجدّد بتوالي المواسم والمناسبات والأعياد. فلا ندعنّ العيد يعبر، فيفوتنا الظرف المتاح. لكن يبقى أنّ القطار سيمرّ مرّةً أخرى وأخرى. ذلك ما نرجوه وما سيكون.l

 

مجلة النور، العدد التاسع 2008، ص 458-459

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share