لوطن مستقرّ لا لحقيبة

الأب جورج مسّوح Sunday June 15, 2008 149

“أنا أو هوَ”

هكذا تبدأ الحرب. لكنّها

تنتهي بلقاء حرجْ:

“أنا و هوَ”

محمود درويش، حالة حصار، ص 64

 

كثيرًا ما استعار الشعراء العرب المعاصرين، وبخاصّة مَن تناول منهم في شعره قضيّة الشعب الفلسطينيّ المطرود من أرضه، صورة الحقيبة للحديث عن الوطن. ولم يخالفهم، في هذه الاستعارة، الشعراء اللبنانيّون الذين، على مدى الحروب الداخليّة التي عصفت ببلدهم، نظموا القصائد التي تشبّه وطن الأرز بالحقيبة أو بالفندق أو بسواها من الصور التي تقصد القول بأنّه مجرّد محطّة عابرة قبل الوصول إلى مستقرّ يدوم.

حسنٌ هو، روحيًّا، شعور الإنسان بأنّ عمره مجرّد رحلة تنتهي في أرض الميعاد، الملكوت السماويّ، فينظّم حيـاتـه كلّهـا علـى هـذا الأسـاس. حـسن أيضًا، بالمـعنـى الروحيّ، أنّ يحيا الإنسان كالبدويّ المتنقّل بين واحة وأخرى في صحراء هذه الدنيا، كأنّه لا يملك شيئًا على هذه الفانية، منتظرًا واحة الأبديّة. حسنٌ أيضًا وأيضًا، بالمعنى ذاته، أن تكون حقيبة الإنسان جاهزة بما جنته يداه للانتقال والعبور إلى الضفّة الأخرى، فلا تباغته اللحظة الخاطفة.

لكنّ ذلك ينبغي ألاّ يعني أنّ الإنسان لا يحقّ له الاستقرار في الأرض والعمل على إعمارها وإصلاحها وجعلها أفضل. أن يتوق الإنسان، في عالم اليوم، إلى العيش بسلام وأمان لا يتنافى مع الاقتناع الكامل بأنّ الحياة المثلى إنّما نحياها في ظلّ مُلك ملك السلام، الربّ يسوع المسيح. من هنا، على الجنس البشريّ أن يسعى، ما وسعه ذلك، من أجل الاقتراب من النموذج المشتهى، وألاّ يــألو جهـدًا مـن أجـل الوصـول إلى هـذه الغايـة. تحقيـق الملكوت وعدم انتظاره بسلبيّة يشكّلان تحدّيًا حقيقيًّا على المؤمنين أن يجاهدوا من أجل جعله حاضرًا “اليوم وهنا”.

كـأنّ قـدر لبنان، منـذ قرنين على الأقـلّ، ترسمـه الحــروب والنزاعات بين الجـماعــات الطــائفيّة المكــوّنة لاجتماعه السياسيّ والوطنيّ. هذه الجماعات، التي تشبه أوكار الدبـابـير، قــد تحــوّلت شيئًا فشيئًا إلى جمـاعـات عنصريّة تستكبر وتستعلي على باقي الجماعات الأخرى. فلم يبقَ من الوطن، الذي هو في المبدأ جامع المتفرّقات إلى واحد، والفسحـة المشتركــة لكـــلّ المواطـنين، ســـوى الاسم فاقدًا كلّ مضامينه العليا التي تحدّث عنها منظّرو المواطنـــة. فقــد الوطــن مقوّمــاته كلّهــا بعــد أن رضــي المواطنون التخلّي عن مواطنيّتهم في سبيل مصالح زعماء الطائفة، وبعد أن رضوا التعامل في ما بينهم على أساس انتمائهم إلى قبائل شتّى.

لا يمكن الحالة الطائفيّة أن تفضي إلى وطن مستقرّ. هذا بلد يحمل بذور شقاقه في ذاته. “دود الخلّ منه وفيه” قول ينطبق على هذا المجتمع الصامت على أحواله المرّة. لا تكفي القصائد المادحة وأصوات المغنّين الصادحة التي تكذب علينا حـين تــروم إقناعنــا بــأنّ لبنــان “قطعــة مـن السماء”، أو “ليس كمثل لبنان شيء”، أو أنّ لبنان “أجمل بقعة في العالم”… هذا كلام عامّ وبلا مؤدّى واقعيّ يقوله كلّ إنسان عن وطنه. “إنّ مديح الوطن / كهجاء الوطن / مهنةٌ مثل باقي المهن”، يقول شاعرنا محمود درويش (حالة حصار، ص 50). هذا المديح لا ينفع شيئًا.

سيبقى وطننا حقيبة ما دمنا في هذه الدوّامة المغلقة التي تهلكنا جميعًا جيلاً بعد جيل. ولن يتحرّر ما لم يتحرّر إنسانه من أسر الطائفيّة البغيضة إلى آفاق المواطنة الرحبة التي تساوي الإنسان الفرد بكلّ فرد آخر. لا فضل لابن طائفة على ابن طائفة أخرى إلاّ بما يحمله من القيم والفضــائل الإنسانيّة الشامـلــة، احتــرام الحرّيّة، المساواة، التنافــس علـى تحقيــق الخير العامّ… وليــست التسويــات الظرفيّة ولا الصفقات الإقليميّة ولا التدخّلات الخارجيّة ولا الوصايات المختلفة هي التي تصنع السلام، بل الإرادة الراسخة بأنّ هذا الوطن قد بلغ مواطنوه سنّ الرشد وبأنّهم قادرون على حكم أنفسهم بأنفسهم.

هذا كلّه في حاجة إلى توبة حقيقيّة تعيد إلى الإنسان إنسانيّته التي خلقه اللَّه عليها. لبنان الوطن أمانة في أعناق سكّانه الذين بإرادتهم يستمرّ وطنهم أو يفنى، وليس ثمّة وطن أبديّ سرمديّ. والتاريخ يعلّمنا أنّ الأوطان تتغيّر والحدود الجغرافيّة بين البلــدان تتبــدّل بتبــدّل الـظـــروف والأهواء. لقد شاء اللَّه وخلقنا في هذه البقاع، وأعطانا إيّاها أمانة، لنبنيها، ولنجعله حاضرًا أكثر فيها، لا لنضعها في حقيبة طائرة. فلا نخن الأمانة.l

 

مجلة النور، العدد الرابع 2008، ص 170-171

 

15 Shares
15 Shares
Tweet
Share15