وفي قراءتك “سرّ الشّخص” لكاليستوس وير في مؤلّفه “الملكوت الدّاخليّ”، ترتسم في مخيّلتك صورة ذاك الإنسان الذي أراد المطران بولس بندلي أن يعاين ضياءه ملء قامة المسيح. ذاك الإنسان المربّع الهويّة، الحرّ واللّيتورجيّ والاجتماعيّ والنّامي، كما رآه اللاّهوتيّ المُلهَم. وإلى كلّ هذه المرجوّات الانسانية كانت ريح محبة البندلي تتوجّه لتلفح وجوه الأبناء. فيستغفرون الأخوة، ويرنون إلى مُشرق النّور، ليقدّموا ذبيحة مُرضية لدى إله المراحم.
في محاكاتي لجدليّة الحريّة، يتجلّى شخص المطران بولس كمثال حيّ، يتمنّى معاشره لو أنّ له القدرة أن يتماهى بسلوكيّاته. فالاحترام الفائق لفكر الآخر، ومحبّته، وتقديره، كائنا ما كان انتماؤه، جعله، بحقّ، أباً للكلّ. وإذ كان يعلن دومًا، تصريحا أو تلميحا، أنّ كلّ ما كان يأتي به ليس من عنده إنّما من نعمة أعطيها من فوق، فإنما كان بذلك، أيضاً، يبشّر بالأرثوذكسيّة محجّةً لكلّ فكر ودين.
وعى حقيقة ترابيّته وعلّم أبناءه كيف يمسي التّراب دربا باتّجاه السّماء. أيقظ صوت الضّمير وشدّد على حريّة الاختيار، فكان الصّوت الصّارخ في الأبناء: تحرّروا بالحقّ الّذي عرفتموه بالمسيح. كان مسلكه يقول لنا بإصرار: لا يتسلّطنّ عليكم أصحاب المال والنّفوذ وأرباب هذا العالم. ومع مسلكه هذا، ما عادت الأرثوذكسيّة طائفة يتمترس خلفها إقطاعيّ، ويستغلّها طائفيّ، ويتاجر باسمها سياسيّ، بل عادت، في ضمائرنا، الى كونها استقامة إيمان وحياة. حرّر الأرثوذكسية من كلّ ما يسيء اليها لأنّه كان حرّا في المسيح، دائم الجهاد ليصون نفسه من أهواء هذا العالم. وأدرك، وهو الأسقف القدوة، أن جهاده هو ما يربّي الأبناء على الحبّ ويكشف لهم سرّ الحريّة في الربّ فيعيشوه ويتذّوقوا حلاوته كلّما أرادوا.
تجلّى عيشه لهذه الحريّة في كلّ توجّهاته التربوية، ومنها ما رجاه، دائماً، للمدرسة الّتي أسّسها في عكّار والتي أرادها واحة علم لجميع النّاس إلى أيّ طائفة أو منطقة انتموا. فكان حريصا على بلورة القواسم المشتركة مع غير الأرثوذكسيّين، وحتّى مع غير المؤمنين، ليؤكّد الانسجام بين العلم والدّين وعدم التناقض بينهما. وكأنّي به قد أسّس حقاً لحركية النقد الذاتي التي دعا اليها الدّكتور أسعد قطّان، في كتاب “الحريّة في أبعادها الحضاريّة”، حين قال “بضرورة أن ينصرف الدّين عن موقفه التّقليديّ الدّفاعيّ عن ذاته حيال العلم، وذلك عبر تطوير حركيّة نقد ذاتيّ تستنبط تفكيرا مستديما في ما هو أساس الدّين وما هو عارض”. هذا حين علّمنا كيف نتخلّى عن قشور زائلة ونجعل العلم والفكر في خدمة اللاهوت، لنستطيع، عندئذ، “إخراج التّقليد الأوّل إلى النّور ودراسته. لأنّ هذا التقليد، وإن كان لا يتغيّر داخل الكنيسة، فغالباً ما تحجبه الزّمنيات والوقتيّات” على حدّ تعبير نيقولا آفاناسييف في كتابه “كنيسة الرّوح القدس”، والذي رأى في “الحريّة ضمانةَ الإبداع في الكنيسة، والإبداع لا يمكن أن يخفى طالما أنّ الرّوح القدس مقيم فيها”.
أما سعي هذا الراعي الى بناء الأبناء في حياة الليتورجيا والصلاة فيعيدني إليه كاهناً للرعية في بشمزين، حيث كانت المحبّة المُتصاعدة من نظراته تغمرنا وتقودنا الى حبّ محراب إمامته. فجبلنا، صغاراً، في طقوس الكنيسة وتلمذنا شاكرين شكورين. ولمّا حرّك الرّوح تخلّع عكّار، ودبّت الحياة في مفاصلها، وانطلقت مسيرة النّهضة فيها، كان محيّاه الباسم رفيق الأبدان الطّريّة، وكلماته الحاضنة تشدّد الرّكب المرتخية. فتتعزّى الشبيبة بحضوره الدّائم معها ولسان حاله يردّد الشّكر لإله المراحم. فها الكنيسة تحتضن شبابها، في حين أنّ مغريات كثيرة في العالم تتكفّل بإبعادهم عنها وتشتيتهم.
علّمنا كيف نتوب وشجّعنا أن نعترف بخطايانا، وكان يعترف قبلنا وينسب إلى نفسه ما يحاكي رواياتنا. ما كان في أبوّته فارضاً أو مُلزِماً، ولا أرادنا أصداء لإرادته، بل كان يفرح بشكوكنا، بحيرتنا، ويدفعنا الى أنّ نقود مراكبنا، الّتي تصارع أمواج التّجارب، بذواتنا، وبثقة، لتحطّ أمام الباب الملوكيّ وتطلب الخبز الجوهريّ بفرح شكور. تلمذنا على الشّكر بامتياز، ولعلّ الكلمة الأكثر ترداداً على شفاهه، بعد اسم يسوع، كانت كلمة “شكرا”. فبشكره لكلّ صغير وكبير إنّما كان يشكر الله من خلال صورته ومثاله. وكان يشكره، أيضاً، من خلال خليقته حيث لا أبالغ بالقول أنّ كلّ نسمة صيف تلفح وجه طفل كانت تحظى بشكر منه.
هذا كلّه لم يغيّب صدارة القول الإنجيليّ ” كلّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار ، فبي فعلتموه ” (مت 25 : 40) في سيرة معلّمنا وتعليمه. وكأنّه كان، بحياته، يسألنا دائماً عن أخينا، ويحذّرنا من أيّ إجابة خاطئة. لقد اكتسب سرّ الأخ مركزيةً نافرةً في إيمانه عبّر عنها بقوله، في مداخلة أثناء ورشة العمل الفكريّة التي أقامتها بلديّة حلبا السبت 25 / 08/ 2007، : “إن تساءلنا من هو أخونا، نجاب فورا أنّ البشر جميعهم إخوة”. هذه القناعة الايمانية الكيانية دفعته الى حمل الكلّ على منكبيه حيث كان دائم الفرح بفرص الخدمة وما كان يئن من عبء. ولهذا شاء المؤسّسات لخدمة الإنسان وما ابتغاها تجارة أو ربحا أو مكاسب دنيويّة. وكما عاين توما أثر المسامير في جسد السيّد جعلنا المعلّم نعاين كيف يستجيب الله لعبيده. فمرّات ومرّات حين كانت سبل الحلول الماليّة لأزمات توالت تبدو مستحيلة في منطق الادارة والارقام كان المطران بولس يبتسم ويدعو الى الاتكال على الله. وكان الرّبّ يعطي. بدّد، نعم بدّد وأعطى المساكين، ولا عجب إن انتقده كثيرون، فقلّة هم أولئك المؤمنون ببرّ يدوم إلى الأبد.