وقانا الله خنازير الفتنة

الأب جورج مسّوح Sunday May 10, 2009 184

يصرّ بعض العرب على تأكيد تخلّفهم في كلّ مناسبة سانحة. لا يحبّ هؤلاء أن تفوتهم فرصة لإثبات تفوّقهم في الانحطاط وتأخرّهم قرونًا عن ركب الحضارة العالميّة. وفي الوقت عينه لا تراهم يتواضعون فيقرّون بتخلّفهم، بل يستحضرون تاريخًا يجعلونه مجيدًا، ويستحضرون قادةً عظماء وبعض العلماء – بالمعنى العلميّ الوضعيّ للكلمة لا بالمعنى الدينيّ – حتّى يقنعوا أنفسهم أنّهم قدّموا ذات يوم للحضارة ما دفعها إلى الأمام، وحتّى يبرّروا كسلهم الراهن عن اللحاق بتطوّرات العالم الحديث العلميّة.

يتفشّى وباء “إنفلونزا الخنازير”. ينطلق من المكسيك. يصل إلى الجارة الكبرى للبلد ذات المنشأ. ينتقل بواسطة الأجواء المفتوحة إلى أوروبا وآسيا. تتّخذ البلدان التي تحترم مواطنيها التدابير الاحتياطيّة على المرافئ الجوّيّة، لإخضاع الواصلين إليها لتحاليل طبّيّة يمكنها إلى حدّ كبير التمييز بين حامل الجرثومة أو السليم الجسم. ومع العلم أنّ أيّ بلد في العالم غير العربيّ لم يتّخذ قرارًا بإعدام الخنازير بسبب هذا الوباء، بل اكتفى بالإجراءات الطبّيّة اللازمة، ومع العلم أنّ الخبراء المعنيّين قد استبعدوا، إلى الآن، إمكانيّة انتقال العدوى من الخنازير المحلّيّة إلى البشر، ومع العلم أنّ الوباء ينتقل من بشر إلى بشر، فقد اتّخذت بعض البلاد العربيّة قرارات بشنّ حملة على كلّ خنـزير يوجد على أراضيها والقضاء عليه قضاءً مبرمًا حتّى من دون فحصه للتأكّد من إصابته.

قرار إعدام الخنازير في إحدى الدول العربيّة أيقظ الفتنة الطائفيّة التي لم تكن نائمة أصلاً. فالمعروف أن تربية الخنازير تقتصر في البلدان الإسلاميّة وفي إسرائيل اليهوديّة على المواطنين المسيحيّين. وأكل لحم الخنـزير حلال في المسيحيّة، وقد اعترف نبيّ الإسلام للمسيحيّين بحقّهم في أكل ما تجيزه لهم شريعتهم. ويقرّ القرآن الكريم بهذا الأمر حين يضع على لسان المسيح عيسى بن مريم هذا القول: “ولأحلّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم” في الشريعة الموسويّة (آل عمران، 50).

اعتبر المسيحيّون من أبناء تلك البلاد أنّ قرار قتل الخنازير يستهدفهم كجماعة دينيّة من دون الجماعات الأخرى، وأنّ هذا القرار لا يأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه القطعان المحكومة بالقتل هي مصدر رزق للبعض منهم. وقد تساءل هؤلاء البعض، وعن حقّ، لماذا لم تقرّر الدولة إعدام البقر والطيور إبّان موجة جنون البقر وإنفلونزا الطيور؟ فقياسًا على ما جرى سابقًا من الإبقاء على البقر والدجاج اعتبر المسيحيّون أنّ القرار لا يستهدف القضاء على الوباء بقدر ما يستهدفهم لغايات أخرى باطنة في عقل النظام القائم.

فهل وجدت الأنظمة المتكلّسة في خوف الناس من الوباء فرصةً لاسترضاء الجماعات الأصوليّة المتطرّفة؟ أو فرصة لتأكيد انتمائها إلى الإسلام وهي أبعد ما يمكن أن يكون عن شرائع الإسلام؟ أم هي مجرّد فرصة لتعميم الجهل لدى عوامّ شعبها حتّى تبقى لها الهيمنة والسيطرة على عقولهم وعلى مصائرهم؟ مهما كانت الإجابات على هذه الأسئلة يبقى أنّ التخلّف هو سمة المجتمعات العربيّة، والمحاولات التي جرت لتغيير هذا الواقع الأليم على الصعيد الفكريّ والحياتيّ قد باءت بالفشل بفضل تواطؤ الأنظمة القائمة مع المؤسّسات الدينيّة التي لا تقلّ تخلّفًا عنها.

لم تكن الفتنة الطائفيّة لتستيقظ لو لم تكن موجودة تحت رماد هذه المجتمعات التي هويّتها الدينيّة تتقدّم على هويّتها الوطنيّة. فليست أزمة الخنازير هي التي أدّت إلى الفتنة أو ستؤدّي إليها عاجلاً أم آجلاً، بل الفتنة الطائفيّة النائمة هي التي أدّت إلى استغلال أزمة الخنازير من أجل أن تنطلق هذه الفتنة مجدّدًا من قمقمها المحفوظة مفاتيحه مع صاحب السلطان. ولو كانت المعايير التي اتّبعت من أجل القضاء على الخنازير معايير علميّة لا همايونيّة لكانت سُحبت الذرائع من أيدي المتضرّرين، ولما كانت لهم حجّة بالرفض، ولما كان ثمّة فتنة. قضى الله على خنازير الفتنة وهدانا صواب السبيل.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 10 أيار 2009

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share