“و هكذا إكتشفت أن الأرثوذكسية في فرنسا لا يمكن جعلها فقط بحدود غيتويات إثنية أو إحتفالية بعض المتبالهين. رجال غير منفصلين عن قدر هذا البلد، بعض منهم من أصل روسي، و البعض الآخر من أصل يوناني … يقبلون أن يكونوا ما هم عليه بدون أي حنين و بدون عدوانية، ُيمارسون تزاوج الحضارات، أرثوذكس هنا و الآن، من أجل تقاسم وشركة ليس فيها مصلحة و بدون أن ينفصلوا عن جذورهم الشرقية و لا أن ينفصلوا عن إستمرارية الأرثوذكسية الليتورجية الحقيقية. هؤلاء الرجال أستقبلوني و لم أشعر مرة أن صداقتهم لم تكن على الموعد. هامشيتهم النسبية تلاقت مع هامشيتي و تجلت بعض الأحيان في الهامشية الضرورية لمسيحية ُمتجددة، هي أينما كانت على إنتشار و غربة و هي أيضاً أينما كانت، على َصلب بين الغربة و المنفى من جهة و الملكوت من جهة أخرى”.
“نظرات متقاطعة لأعمال أوليفيه كليمان”
السبت في 16 كانون الثاني 2010. مركز بيرنانوس في باريس. الذكرى الأولى لرقاد اللاهوتي الفرنسي أوليفيه كليمان الذي رقد في باريس في 15 كانون الثاني من 2009. “نظرات متقاطعة لأعمال أوليفيه كليمان” هو عنوان المؤتمر الذي نظمته مجلة كونتاكت الفرنسية الأرثوذكسية و الأخوية الأرثوذكسية في أوروبا الغربية حول أعمال و كتابات أوليفيه كليمان الغزيرة أكثر منه تركيزا على شخصه و سيرته. شارك في المؤتمر المتروبوليت إستفان، رئيس الكنيسة المحلية ذات الإدارة الذاتية في إستونيا <تابعة للبطريركية المسكونية> و المتروبوليت عمانوئيل، مطران اليونان في فرنسا و رئيس مجلس المطارنة الأرثوذكس في فرنسا و رئيس الأساقفة غفرئيل مطران الكنائس الروسية في أوروبا الغربية التابعة للبطريركية المسكونية و عدد كبير من عائلة و أصدقاء أوليفيه كليمان.
ليكن ذكره مؤبداً !
من محاضرة لأوليفيه كليمان “الخلاص اليوم و ُمعضلة الرجاء” ألقيت في 1973 في المركز المسكوني في الهينو في بلجيكا- مجلة كونتاكت عدد 228 أكتوبر 2009
الصورة و كتابة اليد أدناه ن أرشيف المطران جيريمي <ارميا>، مطران اليونان السابق في فرنسا < مطران سويسرا>
“كيف ُيفتش عنا. كيفَ فتش عني، و وجدني”. أية كلمات أفصح من هذه الكلمات لتبيان الطريق التي يجب إتباعها ؟ أية كلمات يمكن أن ُتعَبِّر أفضل عن وقت هذه التوبة الروحية التي يَنُصُّها لنا أوليفيه كليمان في بداية أول صفحة من كتابه، “الشمس الآخر” ؟ كتاب ُمكوَّن من مجموعة من المُدونات للسيرة الروحية الذاتية. يستودعنا إياها أوليفيه بشكل غير ُمجتزء من الأول للآخر، من الكل للكل. كتاب ليس فيه فهرس و ليس فيه فصول. كتاب كالنهر المُنجرف من المصدر. كاني به يُريد أن ُيظهر لنا “وحدة” حياة، وجدت من جديد، بالمسيح. ُمدونات ُمقتلعةٌ من أعماق صميم تجربة هذا الإنسان الذي “في عمر 27 سنة، بعد أن تغلب على تجربة الإنتحار، تحوَّل إلى المسيحية تحت تأثير أحد كبار الروس في المهجر، فلاديمير لوسكي، و من خلاله، برداييف، … و أصبح أرثوذكسياً” <الشمس الآخر>. إنسان يُكلمنا عن هذه الرحلة نحو الذي أصبح النقطة الأكثر مركزية في حياته. الذي هو “كل شيء في الكل”. الذي يُمليء كل شيء و الذي يعطي معنى لكل شيء. “كل شيء بك، يا رب، أنا أيضاً بك، إستقبلني”، يتبنى أوليفيه كلمات الراهب مكاريوس المُحِج.
“وحده يهم، يبدو لي، رجوع و إنقلاب القلب الذي يجعل المستقبل مُمكنا”ً. المستقبل ليس ممكنا إلا بمقدار هذه التوبة. هذه العودة يجب أن تكون متانوييا، عميقة، وجودية، جوهرية. ليس عودة إجتماعية، بروتوكولية، و واجهية. هذا الرجوع، رجوع القلب، هو الوقت الذي تكون فيه نظرتنا، الشخصية، التي هي بحالة إنتظار، و بحث، و تطهير، و عطش و إنشداد، تتحول إلى “وحه الوجوه”، نحو من هو “نور من نور” و ُينير كل شيء. كل شيء يصبح رجاء و إيمان. ” كل شيء جديد من جديد” ، ُيعلن أوليفيه. و هو الوقت الذي نعي فيه، بعد الكثير من التوه، أنه ليس فقط “كان ُيبحث عنا” و لكن أيضاً أنه تم “العثور علينا”. هذه الديناميكية هي بالنهاية التي تهم. و ليس العكس. و ليس المنهجية التأكيدية و الإنتصارية الإحتفالية. من الممكن أن نبحث كثيرا، دون أن نجد، إذا لم نعي هذه الُمعضلة، الجوهرية، الأساسية، التكوينية، أنه “هو الذي يبحث عنا” و أنه علينا “أن نهب أنفسنا له”. من المؤسف أن نلاحظ كم ُكثر هم الذين في حياة الكنيسة اليوم، يتمركزون دون مشكلة ضمير في ديناميكية معاكسة كلياً، ديناميكية “الذين َوجدوا كل شيء” و الذين “يعتقدون أنه تم العثور عليهم”. و ُيصبحون من “المُديرين” <من إدارة، على عكس الروحيين الرؤيويين> الذين “أقلعوا عن البحث”. إن التطور ألمُقلق، لبعض أوجه “الفريسَّية الجديدة” على عدة مستويات عيش كنيسة اليوم، لا يُمكن أن ُيفسَّر إلا من خلال هذه الديناميكية التي هي على “جانب” روحية إخلاء الذات <كينوزيس> و في بعض الأحيان تكون مُعاكسة لروحية الكينوزيس، و هي بالنهاية ديناميكية تاكيدية، إحتفالية، إنتصارية و ُمنغلقة، تهتم بالمظهر أكثر منه من الجوهر، ديناميكية لا تذهب للبحث عن الحاجة الضرورية لحياتنا بمنهجية جريئة، منهجية تقلب و تعكس الإتجاه، نحو الإتجاه الراديكالي الذي كان للسيد حين قال للمرأة الخاطئة “أمضي و لا تخطأي بعد اليوم”.
“أمضي و لا تخطأي بعد اليوم”، قال يسوع للمرأة الخاطئة بعد أن أنقذها من الرجم. أوليفيه ُيظهر لنا الطريق، طريق ألمسيحية التي هي أكثر مسيحية “التجلي” من أن تكون مسيحية “أخلاقية”، كما برهن ذلك بحس “كليمانتي” السيد فرانك دامور في المؤتمر <كاتب سيرة أوليفيه كليمان “الروحية و اللاهوتية”>. و هذا الأخير كان على حق عندما قال أن أوليفيه كليمان كان أكثر تعبيراً عن “روحانية لاهوتية” أكثر منه من “لاهوت الروحانية”. و هنا يكمن الفرق، و هو ُمهم، في التوجه و الإتجاه. فالروحانية اللاهوتية هي التجربة الروحانية للإنسان الذي يذهب للبحث عن الله في الصلاة التأملية، التي فيها إخلاء للذات، و الذي تجد تتويجها و تكملتها في التأمل اللاهوتي لسر الحضرة، حضرة الله. إنها منهجية الإستماع. “علمني أن أعمل مرضاتك، لأنك أنت هو إلهي”. إنها منهجية الصعود، صعود موسى على جبل سيناء، في حالة “كينوتية” <كينوز> إي في حالة إخلاء الذات، في الجسد و الروح. منهجية سعي تسمح الإنكشاف الإلهي. تسمح “خروج الله” و ظهوره و إنكشافه أمام الذي يسعى نحوه بحيث “نكون سائرين <من هناك> من بدايات إلى بدايات من خلال بدايات لا نهاية لها” <القديس غريغوريوس النيصصي>. درس كبير بالتواضع لما ُيسمى اليوم باللاهوت “الأكاديمي” في كنيسة اليوم !
“أن نكون بسطاء و أن نكون حقيقيين”. اوليفيه على حق. البساطة هي جمال. و “الجمال سوف ُينقذ العالم” على قول دوستويوفسكي. بساطة و حق. ُمعادلة دياليكتية جوهرية يجب أن تكون في صميم عيش و تعبير كنيسة اليوم. في لاهوت الكنيسة. لكي يكون لاهوتنا أكثر “لاهوت مصلي” منه “لاهوت أكاديمي” جاف، ُيبَخَّر هنا و هناك. في تدبير الشركة <الكينونية> على كل مستويات الكنيسة البطريركية، الأبرشية، الرعائية لكي نكون، بالفعل و بالحق، في المأسسة و في العلاقات، جسد المسيح. في ترتيلنا اليتورجي لكي يكون ترتيلا ُمصليا، الرافعة الليتورجية لصلاة الجماعة، لكي يكون ترتيلا “مُصليا” أكثر منه ترتيلا “مُحترفا”، ُيحرِّكه أكثر فأكثر الإنشداد “التقني” أكثر من الإنشداد “الليتورجي” و الذي ُيحوِّل صلاة الجماعة إلى نوع من أنواع الفن الفردي و في بعض الأحيان فن الجوقة. في الحياة الليتورجية للجماعة لكي تكون رعايانا “رعايا حية” أكثر منها رؤيوية منها “إدارية”. لكي تكون أمكنة حياة، أمكنة صداقة، و أمكنة شركة. أمكنة تشهد في وسط المدينة للجمال <جمال الرب> و للحق <حق الرب>. أمكنة تفهم و تعي مجد الصليب و القيامة، قيامة المسيح. و الذي تعلنه للعالم بدون فتور. “الأب صوفروني، قال أوليفيه، فهَّمني أن الأرثوذكسية ليست إيديولوجية بل هي القيامة”. و لنا أيضاً أن نفهم ذلك، فعلياً، ببساطة و حق !