لا تجعلوا رجاءكم فينا

الأب جورج مسّوح Wednesday September 15, 2010 200

“مهما يكن الأسقف، لا تضعوا فيه رجاءكم. كلاّ لا تجعلوا البتّة لكم رجاءً في إنسان. لا تجعلوا رجاءكم فينا مهما كنّا”. هذا القول لأغسطينُس أسقف هيبّون (+435) ليس دعوةً إلى اليأس أو إلى الإحباط، بل هو دعوة إلى المؤمنين كيلا يضعوا رجاءهم إلاّ حيث ينبغي أن يكون، أي في الربّ يسوع المسيح. وهذا لا ينفي، بأيّ حال، رجاءنا بأن يكون الأساقفة والكهنة والمؤمنين كافّة كما يشاء الربّ أن يكونوا.

لا بدّ من الإشارة، بدءًا، إلى أنّنا حين نقول إنّ رجاءنا في المسيح لا يعني البتّة نفي الرجاء في الروح القدس أو في الآب، إذ إنّ العمل الخلاصيّ هو عمل ثالوثيّ بدون انفصام. وحين نقول إنّ رجاءنا في المسيح لا يعني أيضًا نفي رجائنا بالكنيسة، فالكنيسة هي “جسد المسيح”، وفيها تتمّ “الولادة الجديدة بالماء والروح”، وهي “سرّ القائم من بين الأموات الذي يحيينا”. لذلك يكون رجاؤنا كاملاً في حضور المسيح في الكنيسة عبر مشاركتنا في الأسرار وفي الحياة التي تنبع منها. من هنا، لزم التمييز بين المسيح والكنيسة من جهة، وبين الأساقفة والمؤمنين من جهة أخرى.

يحذّر أوغسطينس سامعيه من وضع رجائهم في أيّ إنسان، لخشيته من أن يؤثّر سقوط شخص واحد في عامّة المؤمنين الواضعين رجاءهم فيه. والتاريخ أرانا عبرًا عديدةً عن أساقفة كانوا قامات روحيّة سامية، فسقطوا وأعثروا مَن لم يصدّق أنّ هذه القامات يمكن أن تزلّ أو تنحرف. وفي المقابل، أرانا التاريخ عبرًا عن أساقفة كانوا خير قدوة حسنة، وكانوا منارات شعّت بها الكنيسة بهاءً وضياءً. فكانوا هم “الأساقفة” عن حقّ، فأوغسطينس يعتبر أن “ليس ثمّة أسقف غير صالح، فإنّ مثل هذا بمجرّد كونه غير صالح لم يبق أسقفًا قط”.

الأسقفيّة، إذًا، ككلّ موهبة أو وظيفة في الكنيسة، هي سيف ذو حدّين، فإمّا أن تفتح لصاحبها أبواب الحياة الأبديّة أو أن ترمي به إلى الهلاك. وبما أنّ مسؤوليّة الأسقف هي الأكبر في الكنيسة من حيث موقعه وسلطته، فالحساب الذي سيؤدّيه سيكون أعظم من الحساب الذي سيؤدّيه البشر الآخرون. وليس مستغربًا أنّ أعظم الهراطقة والمبتدعين، الذين أساءوا إلى الكنيسة، إنّما كانوا من الأساقفة ورجال الدين بعامّة. ومن النافل القول بأنّ العالم بالأمور لا يستوي مع الجاهل في كلّ شيء، وبخاصّة في وقفته أمام اللَّه في اليوم الأخير. فمَن يطيق الوقوف أمام اللَّه في ذلك اليوم، على قول كتابنا العزيز؟

من هنا، يحوز الأسقف سلطته على رعيّته بمقدار ما يبذل نفسه لأجلها وبمقدار محبّته لها. ليست سلطته قائمة بحقّ إلهيّ لمجرّد تبوّئه منصبه، بل هي خاضعة يوميًّا للامتحان على ضوء أمانته وانسجامه مع ما يتطلّبه موقعه في الكنيسة. فأغسطينس يقول في هذا السياق: “لسنا (نحن الأساقفة) رؤساءكم في الحقيقة إلاّ بمقدار ما نخدم مصالحكم الروحيّة”. والمسيح نفسه حذّر تلاميذه من أن يتصرّفوا بسلطتهم بمقتضى هذا الزمان، فقال لهم: “قد علمتم أنّ الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وعظماءهم يتسلّطون عليهم. وأمّا أنتم، فلا يكون فيكم هكذا. ولكن مَن أراد أن يكون فيكم كبيرًا، فليكن لكم خادمًا، ومَن أراد أن يكون فيكم أوّل، فليكن للجميع عبدًا”، وختم مذكّرًا بأنّه “لم يأت ليُخدم، بل ليَخدم، وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين”.

المرتجى من الأسقف، إذًا، هو أن يكون على مثال المسيح، خادم لرعيّته يبذل نفسه لأجلها، ولا يضحّي بها في سبيل عزّته وسلطانه. فالمسيح قلب مفهومَي الراعي والرعيّة رأسًا على عقب حين قال: “أنا الراعي الصالح. الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”. في العادة، يقتني الراعي قطيعًا من الغنم فيعلفه وينمّيه كي يهيّئه للذبح، فيما المسيح الراعي فعل عكس ذلك حين بذل نفسه على الصليب من أجل أن تحيا خرافه. رضي المسيح لنفسه أن يصير حملاً ذبيحًا كيلا يُذبح أحد من بعده. لذلك، وفي السياق عينه، يرى أغسطينس أنّ المسيح حين قال للقدّيس بطرس الرسول: “ارعَ خرافي”، إنّما كان يقصد بذلك: “تألّم من أجل خرافي”. فلكي يكون المرء أسقفًا فعليًّا، عليه أن يكون مستعدًّا لأن يشرب كأس الربّ، أي أن يقبل بالصليب.

ليست الأسقفيّة في ذاتها هي التي تجعل الأسقف صالحًا، بل الأسقف بأعماله الصالحة يشرّف الأسقفيّة، ويرفع من شأنها. فـ”اللبوس لا تصنع القسوس”، وفق القول الشائع. وينبغي للمؤمنين ألاّ يضعوا رجاءهم إلاّ باللَّه وحده. غير أنّ المؤمنين من صلب التزاماتهم أن يصلّوا من أجل الأساقفة، ليكونوا دائمًا على ما يشاء اللَّه أن يكونوا “قاطعين كلمة الحقّ باستقامة”.

منذ نشأة الكنيسة إلى يومنا الحاضر، ظهر أساقفة قدّيسون تفتخر بهم الكنيسة، كما ظهر أساقفة نبذتهم الكنيسة لسوء أمانتهم. لكنّ الروح القدس، الذي يقود الكنيسة، لن يستطيع أحد أن يكمّه أو أن يمنعه من العمل، حتّى الأساقفة. وفي هذا الروح رجاؤنا.

مجلة النور، العدد السادس 2010، ص 282-283

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share