الآباء الأجلاء
إخوتي،
مرّة أخرى يسمح الله أن نلتقي لأجل إعلاء شأنه القدّوس في حياتنا وحياة كنيستنا، فنجتمع بهمّ أن نرسّخ هذا الهاجس في قلوبنا وعقولنا وفي ضمائر الأجيال الكنسية اللاحقة. لذا أشكر الربّ على نعمه جميعها وخصوصاً على سماحه بهذا اللقاء الذي يقوّينا ويُثبّت كلاً منّا في التزام مسيحه ومحبّته والفرح الحقيقي به. هذا الفرح، الذي لا يخبو مهما بلغت بنا الضعفات وثخنت الجراح التي تّمعن نهشاَ في جسد الربّ، هو ما يُقيمنا، معاً، في هذه الحركة، في الموقع الأصحّ الذي فيه نلاقي مسيحنا لنكون، مع كنيسته،كما يشتهي هو أن نكون. لنكون، في كنيسته ومعها، رُسلَ حضوره بيننا وجماعةً واحدة تحيا بفضائله وتلتصق بنور كلمته وتُحيي العالم به. فهذه الرحم الحركيّة، التي تجمعنا، اليوم، في المسيح، ومنها دُفعنا إلى يديّه الحاضنتين الممدودتين على الصليب، أفهَمتنا أن المعمودية حياة ممدودة فيه وبه ومن أجله. ولكوننا على هذا الفهم شُغلنا بأن تسود مشيئة الله في كنيسته ونتأهّل، نحن، به، لخدمة هذه الغاية، وهُممنا بألا يُبعد شأن حياة الكنيسة عن الكلمة الالهي ونقاوته ووهج قيامته، وعاهدنا الربّ التوبة إليه وألا نرتاح قبل أن يرتاح، هو، في بيته وعائلته.
الشأن الكنسيّ
أنطلق من هذا الهمّ الذي طالما شغل مساحة كبيرة من حياتنا الحركية منذ عقود وإلى اليوم. ولأننا رأينا أنّ الأسباب التي تُبعد الله عن الكنيسة المؤسساتية الأنطاكية، وتجعلها أقرب إلى جمود الموت، وتؤول بها رهينة لكلّ ما لا يُرضي الله ما زالت تتفاقم، توسّعنا، في مؤتمرنا العام الماضي في بحث ما تقتضيه مسؤوليتنا عن النهوض بهذا الواقع، على الصعيدين الداخلي والرعائي. وكان أن أوصى المؤتمر، في الشقّ الرعائي، بإطلاق حوار مُباشر صريح مع القادة الكنسيين حول هذه الأوضاع لتبني الأمانة العامّة توجّهاتها ارتكازاً الى نتائجه.
لقد أتيح لنا، في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، والأولى من هذا العام، ان نلتقي، بشكل رسميّ إذا جازت التسمية، غبطة البطريرك وأصحاب السيادة مطارنة حماه وحمص والأرجنتين. كما أتيح لي القيام بعدة لقاءات واتصالات بصاحب الغبطة وأصحاب السيادة مطارنة حوران، عكار وطرابلس. إن الانطباع الذي ما زال يتكوّن لديّ ولدى أكثر الأخوة في الأمانة العامّة، الناتج عن مُعظم هذه الحوارات وعما أصاب حياتنا الكنسية في الأشهر الأخيرة، وخصوصاً منه أزمة حلب، هو أن الشرخ في المفاهيم التي بها تُدار حياتنا الكنسية، وما يُرتجى لها من دور، اليوم، ومُقتضيات استقامتها وشهادتها وحيويتها، يزداد جدّاً، إلى حدّ يرتجي معه كلّ مُخلص لكنيسة الربّ ألا تُصاب وحدة الجماعة بسببه.
أيها الأحبّة، في تقييمي أننا، اليوم، في صلب أزمة كنسية مفتوحة لا يُلحظ في الأفق ما يُمكن أن يضع حدّاً لها غير أن يتدخّل الله مُباشرةً متخطّياً ضُعفنا وضُعف كلّ المعنيين صوناً لسلامة كنيسته. وأول ما يتطلّبه الأمر منّا وأهمّه أن يحضر الشأن الكنسيّ في صلاتنا اليومية، الشخصية والجماعية، وأن نبحث في ما يجعل هذا الشأن يكتسب، من الآن ولاحقاً، موقعاً أولّياً متصدّراً، ليس في وسطنا وحسب، بل لدى كلّ من يحبّ يسوع المسيح ويُعنى به ويُسأل، بشكل أو بآخر، عن شؤون كنيسته. إن أسباب هذه الأزمة، وإن تعدّدت أو تداخلت، أرى أن أهمّها يُختصر في سببين إثنين يُبرزان كثيراً من التداعيات التي تحوط حياة كنيستنا وتسود فيها وهما: التفلّت من القوانين الكنسية، وأن فكراً إكليريكانيّاً يتصدّر، أكثر من أيّ وقت مضى، لدى شريحة لا يُستهان بها من رعاتنا، يمنح الكهنوت الوظيفيّ الكثير ممّا ليس له، وحده، ويعلو به فوق سائر المواهب الكنسية الأخرى ما يوليه حصراً المسؤولية عن الكنيسة وفيها. كما يُجرّد هذا الفكر، في آن، المواهب الأخرى من حقّ تفعيل معموديتها التزاماً، دوراً، مسؤولية وشهادة ما يُعطّل، عمليّاً، على الكهنوت الملوكيّ أن يكتسب مداه الفعليّ والتأثيريّ في كنيسة يسوع. إن هذين السببين أرخيا مظاهر وتأثيرات أذكر منها الأخطر وهو:
أ- النظرة المُجتزأة للتكريس التي تشترط عليك، تتمّةً لالتزامك الربّ ومَلئاً لمقتضيات بنوّتك له، التكريس الاكليريكيّ أو الرهبانيّ. وبغضّ النظر عن تعبير، أو عدم تعبير، الكثير من رعاتنا نظرياً عن هذه النظرة، فإن تعاطيهم العمليّ وموقفهم تُجاه الأبناء والآباء، وآراءهم وتوجيهاتِهم، إذا وجدت، توضح لكلّ متعاط بالشأن الكنسيّ هذه النظره وتُشعره بالتمييز الناتج عنها.
ب- العبث بحريّة المؤمنين والتشكيك بإخلاصهم وتهميش طاقاتهم ما لم أقلّ تحقيرها. وأدرج في هذا السياق ما شهدناه في أبرشية حلب وما ورد في بيان المجمع المقدّس وقراراته حول هذا الموضوع وما نُلاحظه من إصرار على استبعاد العديد من الطاقات اللاهوتية والفكرية العلمانية عن مواقع تعليمية كنسيّة. وأيضاً عدم الارتياح، الذي بات جلياً، لوجود الحركة خارج الاطار التنظيميّ المؤسّساتي للكنيسة، ورفض حريّتها في العمل والمُبادرة وأيّ تأثير ودور لها في القرار الكنسيّ، والمعاناة الحركية المتعدّدة الأوجه والأمكنة.
ت- إهمال استكمال تنفيذ قوانين المجالس الرعائية التي هي بمثابة مدى مُشاركة المؤمنين وفُسحة إنخراطهم في بنيان الجسد الكنسيّ، وما نتج عنه من سوء تعاط وبُعد وطلاق في المُشاركة بالمسؤولية بين القادة الكنسيين وشعب الله.
ث- التنكّر للشورى ولكلّ بُعد جماعي ما أدّى إلى تحكّم الأمزجة الشخصية والارتجال والتفرّد وضيق الآفاق الايمانية في قرارات ومُبادرات تخصّ حياة الكنيسة وتؤثّر في مسارها ومُستقبلها لعقود طويلة قادمة.
ج- الجمود والضعف الرعائي وهزالة الحضور الأنطاكيّ في الصعد الأرثوذكسية والمسكونية كما هزالة الحضور الشبابيّ في حياة الكنيسة.