الميـلاد غـداً

mjoa Tuesday December 27, 2011 221

المسيحية في مطلعها لم تكن لتهتم بتاريخ كل أحداثها. برز الفصح فيها منذ القرن الأول لكونه المركز من حيث انه التعبير عن الخلاص. من بعد هذا تفكّرت الكنيسة بعيد اقامته في السادس من كانون الثاني وسمّته الظهور الإلهي جمعت فيه في الشرق والغرب مولد المسيح وذكرى عماده. ثم دفاعاً عن نفسها رأت في أواخر القرن الرابع ان تفصل الاحتفالين فجعلت المولد في الخامس والعشرين من كانون الأول لتكافح عيداً وثنيا يقع في هذا التاريخ وهو عيد الشمس غير المقهورة.

وكان عيد طيش للشباب الوثني الذي كان يجرّ الى طيشه الشبيبة المسيحية. فأعلنت في رومية والقسطنطينية عزل مولد السيد عن تذكر عماده لقولها ان عندنا نحن شمسا اخرى هي شمس العدل وحررت الشباب المسيحي من الخطر الخلقي المحدق بهم وبقي الظهور الإلهي على دلالة المعمودية الى هذا اليوم.

فاذا كان العيد لقاء الله والإنسان يبدو الميلاد اول لقاء لهما في انسانية الانسان. جاء العهد الجديد بقلم يوحنا يقول: “في البدء كان الكلمة” وخشية فهم سيئ لمضمون الكلمة اي هربا من الفلسفة اليونانية أكمل الإنجيل الرابع قوله: والكلمة كان الى الله او عند الله كما يترجمون ولكن حتى لا يقع القارئ في الالتباس قال: وإلهاً كان الكلمة.
ولكن بعد تأكيد ألوهيّة الكلمة كان لا بد له ان يتحدّث عن ناسوته (الكلمة مذكّر باليونانية) أضاف في الآية الرابعة عشرة من مدخل يوحنا (وهذا ترجمتي): “والكلمة صار لحما ونصب خيمته في حينا” اي ان الابن المتجسد ساكننا ولم يبقَ في الحيّز اللاهوتي فقط وتبدّى بشريا معنا حتى الموت.

لم يهتم الإنجيل لتأريخ هذه المساكنة بين الله والناس. لذلك لا نعرف على وجه الدقة زمان التجسد. الإنجيل لم يورد شيئا كهذا لأن الإنجيل يريدك في الإيمان لا في الزمان ولا نعرف شهر الميلاد ولا يومه. وجاء شبه معرفتنا للتاريخ من حساب وضعه راهب يدعى ديونيسيوس الصغير تفسيرا له لبعض ما ورد في الكتاب مثل ان المسيح ولد لما كان كيرينيوس واليا على سوريا. نحن أبناء عقيدة تقول ان المسيح “نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق”.

في التجسد المعبّر عنه اولا بالبشارة والظاهر في الميلاد نتبيّن اللحمة بين الألوهيّة والبشرية في شخص المسيح. العيد الذي نحن فيه غدًا يجعلنا نشعر بأن الله غير بعيد وبأنه أحبّنا حتى بذل ابنه الوحيد عنا . كان الرب يقول في العهد القديم انه يحبّنا. الآن يكشف لنا ذلك بأن ارتضى ان يصبح ابنه بشرا. نحن نعرف الآن بوضوح ان المولود من الآب قبل كل الدهور صار ايضا مولودا من امرأة ليجعلنا نحن أبناء الله بالتبني اي ليجعلنا أحباء الله لنا المحبة ذاتها التي للمسيح من أبيه.
لقد زال الانقطاع بيننا وبين الرب، هذا الانقطاع الذي أوجدته الخطيئة. زوال الانقطاع يأتي من السلام والمسيح هو السلام. لقد تمّ السلام بالصليب وتدرّجنا اليه بكل كلمة تفوّه بها المعلّم وبكلّ عجيبة من عجائبه وبكل خطوة خطاها منذ مولده من البتول. ما أجملها حقيقة ان يقدر الإنسان ان يقول: انا حبيب الله اي انا شبيه بالمسيح.
انا شبيه بالمسيح الأزلي الذي أعدّ الآب له قالبا بشريا منذ الأزل وسكبه فيه لمّا حلّ ملء الزمان بحكمة الآب. لذا نهتف للمخلّص في ذكرى ميلاده: “ان مملكتك الأبديّة تجدّدت أزليّتها” كأنه يقول ان الميلاد في بيت لحم ينقلنا الى المولد الإلهي الأزلي من الآب ويجعلنا مع المسيح كأننا بلا بدء آتين من النعمة الأبدية.
ان لم نصبح على هذا الشعور غدا لن يكون لنا عيد، لن نكون قد امتددنا الى الأبد.

هذه الإلهيات المشرقة علينا كيف ندركها؟ كان يسوع موضع اقصاء من الفندق الى مذود البهائم. «ليس لابن الانسان موضع يسند اليه رأسه». هل نحن اليوم تائبون اليه، قابلوه في فقره، في عرائه؟ هل قبلنا منذ الآن مسيرته الى الصليب، هل غدًا نتمم الفصح اذ هو وحده شوقنا؟
ان مسكنته التي سوف نراها غدا هي سكناه نفوسنا المتكسّرة المنتظرة منه تضميدها حتى تصير كلها من حنانه ورأفاته ومحبته للبشر. منذ الآن اتخذ اوجاعنا وستلازمه حتى الجلجلة لتفنى في قيامته. كل شيء منا يحمله في ميلاده ليجعلنا على صورة لاهوته الكامل.

انه غدا سوف يأخذ صورة فقراء الدنيا. «المساكين يبَشرون». هم الذين سماهم إخوته بامتياز. الميلاد ميلادهم في الرجاد اليه وليس لهم من دنياهم رجاء. أمسى هو كل دنياهم وكل غذاء لهم. واذا نحن لم نلتقهم بمشاركة الحب لن نلتقيه هو ابدًا. واذا لم نذكر الأغنياء بهم يموت هؤلاء من جفافهم. وان لم نخضّ الدول الغنيّة في سبيل الشعوب الفقيرة يكون كلامنا في المسيح كلاما فارغا.
اذا قبلنا كل هذا يبدأ رجاؤنا الى الحياة الأبدية. اذا أحببنا المحتاجين بالقدر الذي نحب به المسيح يكون لنا غدا عيد.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share