رجاءات الميلاد!

mjoa Monday December 26, 2011 177

     الأسبوع الفائت، مساءً، حدث، وأنا في بيروت، في منزل أحد الأحبّة، أن شاهدتُ، على الشّاشة الصّغيرة، في بثّ للصّورة والصّوت خلاّبَين، على قناة Mezzo، السّيمفونيّةَ السّابعة لبيتهوفن تُؤَدَّى. قائد الفرقة الموسيقيّة كان جوروفسكي. إيراد الكنية من دون الاسم دليل أنّ الرّجل غنيّ عن التّعريف. أقول هذا لأنّ معرفتي بالموسيقى الكلاسيكيّة محدودة ولست أسمعها لا أكاديميًّا ولا تقنيًّا. فقط بعضها يحرِّك فيّ الحسَّ عميقًا، أحيانًا.

     الكاميرا كانت زاهية ومحترفة. كانت ترافق أصوات الآلات الموسيقيّة بشكل مدروس ودقيق جدًّا. توزيع اللّقطات لا شيء من العشوائيّة فيه. صوت الكمان قرين صورة لاعبي الكمان، وكذا صوت المزمار، وسائر الأصوات الأخرى. لا تُسلَّط الكاميراتُ على العازفين، هنا وثمّة، على مدى انبعاث ما في عُهدتهم، لا للحظات أطول ممّا يلزم ولا للحظات أقصر. دقّة هائلة في مواكبة الصّورة للصّوت! لذا حركة المَشاهد كانت موسيقيّة بقدر ما كان العزف مصوَّرًا! تناغم الأمرَين، صوتًا وصورة، كان مُبدِعًا ومَبعثًا للعَجَب والبهجة. لا شكّ أنّ مَن أَخرجوا نقل السّيمفونيّة المؤدّاة، صوتًا وصورة، بالإضافة إلى إحاطتهم بنوطاتها وتوزيعاتها على شتّى الآلات المشترِكة في الأَداء، كانت لديهم توزيعات خاصّة بهم ما بين الأنغام والكاميرات!

     وأجهزة الصّوت كانت، بلا شكّ، في منتهى التّقدّم التّقنيّ والاحتراف المهنيّ. أرهف النّغمات تصلك بالصّوت الملآن مثلها مثل أحدّ النّغمات!

     قائد الأوركسترا كان شابًا سامقًا، أسود المَلْبس، مثله مثل كلّ العازفين والعازفات. ما يأخذ بالألباب، كلّما سلّط المصوِّرون الكاميرا عليه، أنّه كان حرًّا من كلّ اصطناع في حركة الصّدر والسّاقَين والذّراعَين والأصابع، والشّعر الطّويل حتّى العنق، والعينين وملامح الوجه، جبينًا مقطّبًا أو شفتَين تنفرجان عن ابتسامة، وكفَّين مبسوطتَين مفتوحتَين إلى فوق أو إلى تحت، تطلقان حشد الأنغام، بقوّةٍ، إلى العلى، أو في انحراف بعضها ذات اليمين وذات اليسار، وفي كلّ اتّجاه، إلى حيث ينبغي؛ تجيِّشان الكلّ في حركة من الدّاخل المركَّز المصفَّى، من كلّ ما عدا قبضةِ الشّرارات النّغميّة المتطايرة، إلى الخارج المسمَّر على محرس الصّحو الكامل إلى الإمساك بزمام أبسط الالتماعات الموسيقيّة إمساكًا مُحكَمًا، لتشدّا (ما زلت أعني الكفَّين) الكلّ، العازفين وما حمّلوه الآلات الصّمّاء من توثّب أكبادهم، والحاضرين، ليرسِلا بيتهوفن التّراث والنّغمة  في وجع ورقّة وصرخة ومعاناة تلملم كلّ ما في الإنسان لتلقيه صوب السّماء، في كفّ الإله الحيّ! هنا تقفز أمام الذهن أيقونة كفّ العليّ، في مائدة الدّير، في ضمّة البشريّة أطفالاً برفقٍٍ وحنان ما بعدهما رفق وحنان! بيتهوفن، البشريّة، في كلّ حال، بين حزن ورقّة “سوناتا ضوء القمر” وصراخ الصّمم المسكونيّ العارم المجنون في “السّيمفونيّة التّاسعة” يجسِّد، في ما أُوتي من سعة كيان موسيقيّ، ويجمع أرقّ مكنونات القلب إلى أعنفها، ليلقي بالكلّ، كلِّ البشريّة، كتلةَ معاناةٍ عند أعتاب الملكوت!

      ما شعرتني، مرّة، بالموسيقى، على جهلي بها، من جوهر روح المعمدان يوحنّا، المقطوع الرّأس، النّاطح قوى هذا الدّهر برقّة اتّضاعه، بإزاء السّيِّد الرّبّ الإله، المشير بكفّه عُلْوًا: “هذا هو حمل الله الرّافع خطيئة العالم”، أقول ما شعرتني بالموسيقى كذلك كما شعرتني بها وأنا مشدود بالكيان إلى مَن وما أدّته هذه القبضة من مترجمي حركات الأكباد، في تلك الأمسية! “لنطّرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ كوننا مزمعين أن نستقبل مَلك الكلّ”!

     سألته: “كيفك؟” أجابني: “الشكوى لغير الله مذلّة!” الإقامة عند حدود الشّكوى من غير الاتّكاء على صدر السّيِّد، حنانًا، لَعْقُ جراح! ليس الوجود عبثًا! من السّيّد أتينا وإليه الارتحال وفيه المستَقرّ! “أيّها الرّبّ يسوع، تعال!”

     في أوائل تمّوز الفائت أُسمعتُ تسجيلاً، قيل للملائكة مباشرة، أوتي مؤمن روسيّ أن يلتقطه في دير من أديرة آثوس! كانوا يسبِّحون، وهم المسبِّحون أبدًا! أصواتهم أعلى من صوت أيّ بشريّ، على شدّة تَجْمَعُ العنف إلى الرّقّة، ما يستدعي قولة النّبي: “مزِّقوا قلوبكم لا ثيابكم”! يتمثّلون قوّة الحضرة الإلهيّة ويبعثونها في اتّضاع فائق، كما ليعلِّموا البشريّة، وهم معلِّموها، لغةَ الله! لا تسبيحهم كلام ولا أنغام، بل ما فوق النّغم والكَلِم! يتركونك في تسآل وخشعة ويمتدّون إلى عمقٍٍ فيك حَسِبْتَه لا وجود له فإذا به فراغٌ ممتلئٌ بما يجعلك تتحرّك من عتبات الملكوت إلى داخله، لتقف في حضرة ربّك في رهبة ومهابة وفرح عميم، لو كنت تدري! بيتهوفن مستكمَلٌ هناك!

     وإذ تستدعي الأحاسيسُ العميقة مثيلاتها، يرتحل الذّهن إلى عيد مرّ بنا، يوم الجمعة الفائت، لشحّاذ رومية، 23 كانون الأوّل، في القرن السّادس للميلاد: سرفولوس البارّ. هذا كان شحّاذًا مخلّعًا منذ الطّفوليّة. لا طاقة له على الوقوف على رجليه ولا على الجلوس مستقيمًا ولا على رفع يده إلى فمه ولا على التحوّل في استلقائه من جنب إلى جنب! كلّ مأساة البشريّة! كلّ الضّعف والمعاناة! آلامه ومذلّته استغلّها في السّعي إلى القداسة! كان يستعطي ويعطي الفقراء! جمعهم، جمع البشريّة إليه! أتقياءُ كانوا يقرأون عليه الكتاب المقدّس، وكان هو يرتّل ويسبِّح! عمله الدّؤوب كان رفع الذّهن عن الشّقاء إلى الله بتواتر! دنت ساعته! دعا الفقراء والغرباء أصفياءه! “رتِّلوا، زمِّروا، قال”! وفيما كان يضمّ صوته إلى أصواتهم صرخ فجأة: “اصمتوا! أما تسمعون التّسابيح والألحان الّتي تتردّد في السّماء؟!” وإذ قال ذلك رقد!

     هذا الأسبوع قرأت قولاً جميلاً معبِّرًا للقدّيس إيريناوس اللّيونيّ (+202 م). قال: “نفس المؤمن هي الهيكلُ الحقيقيّ للمسيح ، فزيِّنوا الهياكل واكسوها… عندما يموت المسيح من الجوع في شخص الفقير، فلا جدوى، بعدُ، من تزيين الجدران” (في توضيح التّعليم الرّسوليّ).

     ربّاه، اليوم تأتي! تشقّ السّماء وتنزل! النّاس كلّهم إليك! أنت في شهقة روحهم ولو كان أكثرهم لا يعلم! بماذا يصدحون؟! أيّة موسيقى يرسلون إليك؟! أوتارهم ومزاميرهم وطبولهم استهلكوها في غير هيكلك! أوتارهم انقطعت ومزاميرهم بُحَّتْ وطبولهم تمزّقت! يأتونك، نأتيك، ربَّنا، ولا نمتلك لباسًا للدّخول إليك! فقط توقًا: “ليتك تمدُّنا إليك”! إن كنتَ، ربّي، للآثام راصدًا فيا ربّ مَن يثبت فإنّه من عندك هو الاغتفار! جوق البشريّة، سيِّدي، موجوع، مجرَّح، مبعثر كمَن لا راعي له، لا قائد أوركسترا ! إلى مَن تذهب البشريّة المهشّمة! أنت، ربّاه، رمِّمها مباشرة! شُدَّ أوتار القلوب من جديد، وبُثّ ألطافك في مزامير الأكباد المطعونة بالخطيئة، ورمِّم الطّبول وجيِّشها إليك! أعطنا، اللّهمّ، اليوم، مذاق الميلاد! لا تترك أحدنا! أنت قلت، اليوم، بملاكك: “ها أنا أُبشِّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشّعب” (لو 2: 10)! أجل، لجميع الشّعب، ربّي! أعطنا، اليوم، أن نكمِّل السّيمفونيّة المقطوعة، صراخًا في المدى وأَلَمًا وموتًا! ضُمَّنا إلى جمهور الجند السّماويّ الّذي سبَّحك في ميلادك، وقال بالكلمة والصّوت، وبما فوق الصّمت والنّغم: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة”!

     أيّها الرّبّ يسوع، تعال، تعال!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share